في العلاقات الاجتماعية بين الناس، أفرادا وجماعات، تأخذ الخلافات حول جوانب الحياة الأولوية على «المتفق عليه». هذا شيء طبيعي، لأن الحياة طبيعة وفكرا هي مصدر الجديد. وإلى أن يصبح الجديد سائدا أو مقبولا على الأقل، يمر الناس والمواضيع وبنى المجتمع بمرحلة مضنية من الجدل الذي قد يصل إلى العنف على مستوى الأفراد والجماعات والبلدان والدول. ولأن الموضوع بهذا القدر من الأهمية والإتساع والخطورة، يمكن الاقتصار على بعض مظاهر الخلاف في هذا السياق دون إدعاء الإحاطة بنظرة شمولية للمشهد القائم لحقيقة الأسباب والمآلات. مواضيع جديد الحياة لا تحصى. ما يمكن ملاحظته، ولا نقول إحصاؤه، هو هذا الكم الهائل في الثقافة السائدة- في بلداننا النامية- من الخصومات حول ضرورة أو ضرر، ليس على مستوى المؤسسات الإدارية في السياسة والاقتصاد، بل على مستوى العلاقات الاجتماعية بين الناس أفرادا وشرائح اجتماعية «والهوشات» الجدية حول الاصطفافات اليومية مع أو ضد هذا الجديد أو ذاك. صحيح أن جرأة هذا الجديد المفروض أحيانا من الإدارات العليا، وأحيانا بسلطة الضرورة، قد يوفر الكثير من الجدل، إلا أن أطنانا من الأفكار المسبقة التي تكدست عبر مئات السنين والقائمة على البحث عن الحقيقة وجدواها عبر طريق وحيد الاتجاه، يقوم على فهم غامض يقود لسوء فهم يقوم بدوره على تغليب سوء الفهم للوصول إلى سوء تفاهم. وهكذا نتهاوش بشكل عبثي لنصل إلى «الفرقة»- بضم الفاء- المنبوذة من الجميع. هذه الفرقة المنبوذة من الجميع ليست سوى نتاج وجودي يسبح في بحر من ظلمات حمولة فكرية مرتبكة تصارع من أجل البقاء استنادا على مخزون وجداني قائم على مقاصد نبيلة تعاند العقل والعلم الذي يوفر المستشفى ولقمة العيش الكريمة بدلا من ترياق الوجود. ليتأمل كل منا نفسه ويستعرض بعض ما مر به من لقاءات خلال الستة الأشهر الأخيرة مع أصدقاء ومعارف وعائلات وبخاصة في أوساط «النخب». صحيح أن خيطا رفيعا من التآلف الوجداني يقوم على رعاية السلم في نهاية السجالات، إلا أن أحداثا مؤسفة تقع وربما يجري الاعتذار عنها لاحقا. من ذلك مثلا أن يطرح أحدهم رأيا شخصيا حول واحدة من قضايا الشأن العام. وقبل أن يفهم أحدهم الرأي بشكل صحيح، وحتى لا يسبقه أحد، يرد معارضا عن سوء فهم. يمكن أن يزال سوء الفهم، لكن وعوضا عن ذلك. يضاف سوء فهم جديد. هكذا يحدث.. سوء تفاهم وربما تصل الأمور إلى «هوشة». أغلب الهوشات في بلادنا ضرورية لخلخلة الركود الذي يخيم على أدمغتنا والذي لا يستثني أحدا محافظا كان أو تنويريا. الفرق فقط يكمن في شجاعة الاعتراف بوجود هذا الكائن الهلامي والشيطاني في زاوية ما من زوايا وجداننا الضعيف. قد يعتقد البعض بأن الحديث يدور وكأن الموضوع لا يختلف عن دعاوى المشعوذين التقليديين أو دعاوى الشعوذة الحديثة القائمة في الحالتين على أن القدر بيد الفرد الذي يزهد في الحياة «الشريرة» أو يتحداها كفرد معزول في جزيرة نائية يكفيه للخلاص مما هو فيه أن يردد مئات المرات يوميا «أنا أقدر». هؤلاء ليسوا أقوياء بخرافاتهم، بل بمخزون خرافي يعمل على تأبيده بعض النافذين روحيا وإداريا إمكانية لعدم الوقوع في الفتن المنهي عنها في المعلوم حول ضرورات الاستقرار. الهوشة: الفتنة والاضطراب والهرج.