كثيراً ما يكشف لنا الأدب حالات لم نتوقعها ولم نلتفت لها، خصوصاً إذا كان الأدب خارجاً من معاناة أديب، حيث يسقط هذا الأديب كل معاناته التي يعيشها على قلمه الذي يخطها لنا في قالب أدبي نعيش من خلاله آلامه وآلام من معه، فالبلاغة هنا تكمن في دمج المعاناة بالأديب أياً يكن قالبه، وهذا ما نضعه اليوم بين أيديكم، حيث كشفت لنا الأيام قرب رواية «أهزوجة الرحيل» التي تحدثت عن ثورة شباب في العام 211 للكاتب السوداني معتصم الشاعر، وهي رواية صدرت عن مؤسسة صوت القلم العربي، عدد صفحاتها مائة وأربع صفحات، في حجم من القطع المتوسط. تناقش هذه الرواية الوضع الراهن العربي في كثير من محاوره، عبر قصة شاب ظل يتذمر طويلاً وهو في مقعد عجزه، ويرى الواقع مهرجاناً للركل، فكل يركل من هو أصغر منه، ويركل آخرهم طبلاً كبيراً ليضبط إيقاع الركل، مر البطل بفترة قاسية، حتى دخل مشفى للأمراض النفسية، ليدهش الطبيب بأفكاره وتشخيصه لحالته ومعرفته بالعلاج فهو نسخة من أمته، حيث قال عن نفسه: «ولأني لم ألعب دوري في الحياة، كنت الكرة التي يلعب بها الآخرون» أما عن دور الفرد فيقول بطل الرواية الذي لم يسمهِ: «الذي ليس له موقف تجاه قضية ما، متنازل عن وجوده أمامها، والذي ليس له موقف تجاه أي شيء، هو في الحقيقة لا شيء». وأخيراً ينتفض في ثورة فردية موازية للربيع العربي ويحقق نجاحات غير متخيلة الرواية مليئة بالصور والرموز مما أبعدها عن استنساخ الخبر الإعلامي، ومما يدعو للدهشة، تصويرها لحالة القذافي ونهايته، لتبرهن على دور الأدب في تفسير الواقع واستشراف المستقبل، ففي مشاهد مكثفة وسط ركام الأشياء يرى البطل رؤيا منامية، حيث رأى نفسه يشاهد عبر النافذة، في لحظات الغروب، نباتات سوداء وقزماً يسير نحو مستنقع الوحل، وخلفه طفل يحاول أن يثنيه عن فعله يرمز بذلك للضمير الإنساني أو الطفل الليبي لكنه يصمم على مواصلة المشوار حتى النهاية فيعيش في قلب الظلام ويتوج ملكاً للملوك في رمزية وإشارة للرئيس الليبي القذافي، حيث قول الطفل: «ظننتك ستعاف الوحل» لكن القزم لا ينثني ويخرج مسدسه ويقتل الطفل بعد أن يبلغه رسالة إلى الجرذان، وينغمس تماماً في الوحل» وبعد برهة أخذ يصرخ ويتحدث بلغة غير مفهومة كلغة الاستعطاف التي تخرج من فم متألّه ربما أمسك به شيء ما في قلب الظلام قاصداً ومشيراً بذلك لنظرة الرئيس القذافي للثوار حينما بدؤوا ثورتهم، فهم عنده أشياء فقط وكانت صرخاته كمن يطلب النجدة» أنا معمر، أنا القائد، يا أبنائي» وصوته كمن هو تحت الأنقاض» أنقاض سرت التي دمرت» ثم ينتهي الحلم بقول البطل: «وبصقت عبر النافذة، وسمعت الإعصار يعوي وهذه إشارة أيضاً وتفسير للإعصار الذي قلع خيمة القذافي إلى الأبد ثم أسدلت الستار، وبمقتل القذافي أعلن المجلس الانتقالي تحرير ليبيا بالكامل، وأسدل الستار على كابوس الطغيان». أتعلمون... حينما نتمعن في أحداث هذه الرواية التي كتبت قبل سقوط القذافي، نقطع بلا شك بأن الأدب يحمل بين طياته الكثير من المفاجآت والعبر، حتى وإن كان بعد حين.