الماء هذا الذي تجمع الأساطير الأولى والفلسفة منذ فجرها والأديان السماوية والوضعية على أنه أصل الحياة وواهب تجددها واستمرارها، الماء هذا لم يتحول إلى رمز، بل بقي هو نفسه، وكل مرة يرد فيها إبداعيا يتحول ما يضاف إليه أو يوصف به إلى رمز، أما هو فباق محتفظ بإيحاءته الأولى. وحديثها كالقطر يسمعه راعي سنين تتابعت جدبا فأصاخ يرجو ان يكون حيا ويقول من فرح: هيا ربا. هنا حديثها هو الذي اكتسب معنى جديدا وليس الماء. دهشة المجدب المقل دهته نقلة الغيث حين كاد يصوب الغيث هنا هو هو، الذي تغير هو الحالة المضطربة التي دهت المجدب المنتظر.. مطر يذوب الصحو منه وبعده صحو يكاد من الغضارة يمطر غيثان، فالأنواء غيث ظاهر لك وجهه والصحو غيث مضمر أرأيت.. المطر واقف معتز بمعناه، الذي اكتسب معنى جديدا هو الصحو.ولكن حين تريد الضحك حتى تنشق كبدك اقرأ تشبيه البحتري الذي يتبرأ الماء من سخفه: تنصب فيها وفود الماء معجلة كالخيل خارجة من حبل مجريها ليس منتظرا من الشاعر الصحراوي أن يحول الماء إلى رمز، لأن مجرد وجود الماء من حوله هو كل أمانيه، أما الشاعر الحديث فهو الذي استطاع أن يخرج الماء من معانيه الأولى إلى آفاق الإيحاء والرمز.. فبدءا من «أنشودة المطر» للسياب و«النهر الخالد» لمحمود حسن إسماعيل ورمزية الماء تحتل الشعر العربي عند معظم الشعراء سواء أكانوا في أول الشوط أم في آخره. «قال لي النهر:/ أنا أفتح صدري للمدينة/ وأناديها إلى ليلة رقص وتخاصر/ وأغنيها، ولكن المدينة/ لم تعد تسمع صوتي وتراني..». محمد عفيفي مطر هنا أنسن النهر، فنراه هو الذي يعاني غربة أبي حيان، فهو الذي ينادي المدينة، ولكن المدينة، على ظمئها، لا تسمعه، وكذلك هي بئر يوسف الخال، فهي مهجورة مثل نهر عفيفي مطر، لذا يهتف نذير العظمة: «من يثقب جدران الأشياء/ يملؤها ظلا/ يملؤها ماء؟» ويتعبك تقصي ما قاله الشعراء الكبار، وستبقى منتشيا حين تقرأ لمحمود درويش «على الماء وجهك» أو للشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح: «كل حرف لسان من الماء» وهكذا. الشاعر الكبير علي الدميني أدرك في إشراقة رائعة عجز اللغة عن احتواء الماء وصفا، ولذلك بدأ قصيدته «تمثال الماء» بقوله «لو» وهي حرف امتناع لامتناع «لو كان الكلام يجيد وصف الماء» ثم راح يلاحق تحولات الماء «في المعنى الذي/ يمضي إلى مأواه... إلخ».