في غمرة السجال السياسي بين مصر وإثيوبيا حول النيل وحصص الماء والسد المزمع بناؤه، قد تبدو استعادة هذا النهر القديم من خلال النصوص الميثولوجية الغابرة والأدبية والشعرية التي كتبت عنه أو استوحته طوال عصور، أشبه بتحية إلى هذا النهر الأشبه بالاسطورة الخالدة. هنا، تحقيق يسترجع ملامح من الحضور الشعري والأدبي للنيل بدءاً من الأدب الفرعوني حتى الأدب الحديث. ثمة حضور واعد للنيل، مقترناً بالأساطير تارة، وبالمقدس طوراً، وبالأدب حيناً، وفي الأدب العربي حكايات عن النهر، شطآن من الظلمة والنور، من الخصوبة والجدب، وجدل دائم ما بين الموت والحياة. يبدو الأدب أكثر احتفاء بالنيل، فيطرح لنا كيف يخط النهر طريقه المحفور، فيرمم ذكرياته الخوالي. لذا، يظل الأدب أكثر نبلاً من السياسة في تعاطيه مع النهر، وأكثر وعياً بقدسيته، وذلك بدءاً من الأدب المصري القديم، والذي تعاطى مع النهر بصفته أقنوماً مقدساً ينزع إلى المثالية الشديدة. فحينما تشتد الفوضى في البلاد يبدأ النهر غضبه المقدس، وهذا ما كتبه الحكيم المصري الشهير إبو – ور واصفاً حال مصر حينما غضب النهر نتيجة الحرب الأهلية والشقاق في عصر الاضمحلال الأول عام 2150 ق.م: «كان النيل يفيض، ولكن لا أحد يحرث حقله... وكل واحد يقول، نحن لا نعرف ماذا حدث للبلد... فقد توقف خنوم عن خلق أطفال (جدد)... وحال البلد سيئة... وأصبح الفقراء ملاكاً لأشياء ثمينة... والشخص الذي لم يكن له صندل (حافي القدمين)، أصبح ثرياً. عمت العداوة الأرض وأصبح الدم في كل مكان... ودفن الموتى في النهر الذي أضحى جبّانة، كما بات مكان التحنيط... أصبح النهر دماً...». ووضع بعض الكتاب أصولاً للتعاطي مع النيل، فنجد «أمن - ام - أوبت» في عام 850 ق.م. ينصح صاحب «معدية» بأن يكون رحيماً مع الآخرين، فيقول: «لا تمنع الناس من عبور النهر عندما يكون لا يزال لديك مكان (شاغر) على مركبك ويأتيك شخص يعيش على الجزيرة، لا بد أنك ستمد له يدك لتأخذه معك. وهنا لن يعاقبك الإله. لا تصنع لنفسك معدية على النهر وتجمع الثمن. خذ الثمن من الثري، ورحب بذلك الذي لا يملك الثمن». وفي الشعر العربي النهضوي يبدو أحمد شوقي مولعاً بالنهر، مشغولاً بإضفاء هالة من القداسة متماساً مع الموروث الديني، فيقول في مفتتح قصيدته عن النيل: «من أي عهدٍ في القرى تتدفق/ وبأي كفٍ في المدائن تغدق؟/ ومن السماء نزلت أم فجرت من/ عليا الجنان جداولاً تترقرق؟»، وهنا يبدو النهر - وباختصار - حالة رومنطيقية، دشنها فيما بعد شعراء مدرسة أبوللو، مثل: أحمد زكي أبو شادي، وعلي محمود طه، وغيرهما. يمتدح أبو شادي النيل متخذاً موقف الممتن له، السارح في جلاله: «يجري بماء حياتنا وحياته/ فكأنما صرنا سريّ نباته/ يجري بغالي الرزق جري موفقٍ/ للبر لا يمتن من حسناته». ويرى علي محمود طه في النيل داعماً للوحدة ما بين مصر والسودان، ورسولاً للقيا بينهما: «أخي إن نزلت الشاطئين، فسلهما/ متى فصلا ما بيننا بحدود؟/ وغامت سمائي بعد صفو وأخرست/ مزاهر أحلامي، ومات نشيدي/غداة تمنى المستبد فراقنا/ على أرض آباءٍ لنا وجدود/ وما مصر والسودان إلا قضية/ موحدة في غايةٍ وجهود/ إذا يدنا لم تدك نار حياتنا/ فلا ترج دفئاً من وميض رعود». بدا النيل حالة رومانسية أيضاً في الشعر السوداني، فيكتب الشاعر السوداني إدريس محمد جماع: «وادٍ من السحر أم ماء وشطآن/ أم جنة زفها للناس رضوان؟/ كل الحياة ربيع مشرق نضر/ في جانبيه وكل العمر ريعان». دلالات النيل ويبدو النيل لدى الشاعر المصري محمد إبراهيم أبو سنة مفجراً للبهجة، ودالاً عليها في آن، وهذا ما يثبته ديوانه «رقصات نيلية». ويكتسب النيل لدى أمل دنقل مدلولاً مختلفاً يمكننا تلمسه في قصيدته «حوار على النيل»، حيث يبدو النيل تكئة لسؤال يبغي الحرية ويمجدها في آن: «من ذلك الهائم في البرية/ ينام تحت الشجر الملتف/ والقناطر الخيرية – مولاي. هذا النيل/ نيلنا القديم...». ولدى محمد عفيفي مطر في ديوانه «والنهر يلبس الأقنعة» يكتنز النهر مدلولات فلسفية ثرة، وعميقة، ويعج الديوان بمرموزات عدة، تكشف عالماً بالغ الغنى. ويأتي محمود قرني ليعبر عن ذلك النفس الطليعي الجديد في القصيدة المصرية في تعاطيها مع النهر الحاضر في الثقافة الشعبية في أشد تجلياتها خلقاً وابتكاراً، معتمداً على الأسطورة الشعبية التي ترى أن كل من يشرب من النهر ساعة نومه، يمتليء بقوة خارقة، ومتكئاً في قصيدته «من أجل مزرعة الكوليرا» على تماس بديع مع إليوت في «الأرض الخراب»، وتحديداً في جملته: «توقف أيها النهر العذب حتى أنهي موالي»، «وعند مغيب القمر/ ساعة ينام الماء/ سأغب النهر كله/ وأدعو لبدني بالقوة/ سأقول للنهر:/ «توقف أيها النهر العذب/ حتى أنهي موالي». وفي السرد يبدو الروائي السوداني الطيب صالح مسكوناً بالنهر، طارحاً صيغة «النهر/ الرحم» القادر على أن يمنح شخوصه المعذبين حالاً من الأمان المبتغى، بدا ذلك في روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، وفي مجموعته القصصية «دومة ود حامد». وتلوح أيضاً نصوص لكتاب مصريين، تبرز من بينها رواية «ثرثرة فوق النيل»، التي يعري فيها محفوظ الواقع التعس لمجموعة من المثقفين تقرر أن تنفصل عن محيطها الاجتماعي، غير عابئة بأن ثمة واقعاً سياسياً مسكوناً بالمرارة، وأن عليها أن تصبح صوتاً للجماهير المقموعة، و«العوامة» فضاء بيئي خصب وظفه محفوظ بجدارة تليق به. وفي «عصافير النيل» للكاتب إبراهيم أصلان ثمة جدل ما بين الحياة والموت، عبر عيني راويها الرئيسي المشغول بتحولات الزمن وتغيراته، هذا التحول الذي يضمر داخله تحولاً آخر خاصاً بالبشر، أولئك الذين كتبهم أصلان وعبر عنهم من دون أن يصبحوا أبواقاً، أو مجرد ممثلين لوجهة نظر الكاتب. وفي رواية «نهر السماء» للروائي فتحي إمبابي، يتكئ العنوان على الاعتقاد الشعبي الذي يرى أن نهر النيل ينبع من الجنة، والمعتمد على المعتقد الديني بأن النيل نهر من أنهارها، ومن ثم نراه يقول: «غمغم العجوز: لقد أمضيت عمري صعوداً وهبوطاً على متنه. تغيرت المراكب والمدن والقرى والأشخاص والمماليك، وهو باق. هذا الذي تلعنه يا بني ليس سوى نهر السماء...»، فعبد المحسن بطل الرواية الثوري كان قد كفر بكل شيء، بعد أن باعه الكل، صديقه القديم المملوك (حسين الأشقر)، وأستاذه وابن جلدته (الشيخ السنهوري). غير أن الحضور الواعد للنهر بدا ماثلاً منذ مفتتح الرواية، حيث يلازم النيل الشخوص في حلهم وترحالهم، قيامهم، وانكسارهم، إنه شاهد العيان الباقي على المأساة التي يعيشونها تحت حكم المماليك المغتصبين، ومن ثم يصير النيل/ الرمز لا يشق مدينة منوف المصرية (المكان المركزي في الرواية) فحسب، ولكنه أيضاً يعبر عن الداخل الثري لهذا المكان بشخوصه، وناسه. يبدو النيل إحدى التيمات المركزية لدى أدباء النوبة، فهو لديهم فضاء واصل ما بين سياقين متقاطعين، ومتجادلين في آن: المكان المحلي/ النوبة بذكرياتها القديمة، والفضاء المصري الأم، وما بين الفضائين ثمة أشخاص مأزومون، يعيشون على الحافة، والنهر رابط مركزي بينهما. نراه مثلاً في رواية «جبال الكحل» للكاتب يحيى مختار، ذا كبرياء، يعشقه النوبيون ويقدسونه. ولدى الأجيال الجديدة من كتاب النوبة يصير النيل شاهداً على «تغريبة الأحزان»، منطلقين إلى عوالمهم القاهرية البديلة، مثلما نرى لدى القاص شريف عبدالمجيد في القصة التي تحمل الاسم ذاته. يلوح النهر عن قرب، وتبدو تمثلاته النوعية معبرة عن حال من الاختلاف، والتسامح في أعمال القاص المصري علاء أبو زيد، نرى ذلك في قصص مثل: «فم النهر»، و«انحناءة النهر»، و«الصليب يغادر النهر»، والموجودة في مجموعاته الثلاث: «فم النهر»، و«الحافة»، و«القريب الأميركي»، بحيث يمثل النهر الدال المركزي، والمفردة الأساس لديه، مصبوغة بحال من النوستالجيا. فالحكي عن عوالم الطفولة وذكرياتها، يمثل هاجساً لديه. وللكاتب المصري خالد إسماعيل مجموعة قصصية عنوانها لافت ودال: «غرب النيل»، يتسم شخوصها بعنف داخلي، ويبدو النهر تعبيراً عن هوية المكان، ومكونه الحضاري، طارحة فكرة المكان المنفي/ المقصي، ومشغولة بأنساق المكان المحلي، وعلاقاته الاجتماعية الشائهة، والمرتبكة في آن. وبعد... يبدو النهر حالةً رومانسية تارة، ومكوناً حضارياً تارة ثانية، ورحماً بديلاً تارة ثالثة، وسؤالاً للحرية والخلاص تارة رابعة، ووصلاً ما بين خاص وعام تارة خامسة، وفي كل تتشكل ملامح النيل في الكتابة العربية بصفته ملجأ لكل المطاردين من جحيم العالم وقسوته، والساعين إلى عالم أكثر جمالاً وإنسانية.