لكل إنسان موطنه الذي يتخذه للإقامة والعيش والاستقرار فيه، وللحفاظ عليه يتطلب أن يبذل فيه كل أسباب العمل والاجتهاد لتحسينه والصبر على تذليل التحديات التي تواجهه فيه، وهكذا الناس المجتمعون في بقعة من الأرض ينخرطون على هذا السلوك يتعاونون على كل ما يحقق لهم الحياة الكريمة في أوطانهم. وهذه الخاصية الاجتماعية تعد مدخلا للاهتمام بقضايا الإنسان وتنمية جوانب وجوده، ويفترض معها الولاء الصادق تجاه البلد المحتضن. فالإنسان ابن بيئته ولا يعقل أن يكون عاقا لها، والفطرة السليمة تقتضي أن تقوم العلاقة بينهما على الحب والولاء، والمسلم بطبعه وفطرته وسمو أخلاقه، حري بألا يصدم إيمانه بإحساسه بالمواطنة، بل الإيمان يستلزم تنمية هذه العلاقة وحفظها من الغلو والفتور، وتزكيتها على منهج الاعتدال والوسطية، وأي استهتار بالمواطنة يعتبر مساهمة في تعطيل مصالح البلد وانسلاخا عن أخلاقيات الإيمان والمواطنة. فالواجب الوطني حق لا حدود له ولو على بلاد لا تحكم الإسلام، ولو حدث خلاف ذلك لكان ذلك ذريعة للمباعدة بين المسلم وغيره ومن يقتسم معه الوطن، فضلا عن تجسيد صورة سلبية عن المسلم الذي يفصل بين المبدأ والسلوك، فالارتباط بالأرض متصل بأخلاقيات الإيمان الراسخة في الضمائر والأذهان، ومهما عظمت الكلفة فإن الألفة تذلل الميل إليه. ولا غرابة من الموافقة بين الإيمان والمواطنة على سبيل الاعتزاز والفخر، فهذا الأمر يعد مقبولا، كما نرى من بعض المسلمين ممن هاجروا إلى الغرب بعيدا عن أوطانهم التي نشأوا فيها. فاعتزاز المسلم بانتمائه لوطنه حق، ومتى تمكنت المواطنة من المواطن حرص على العمل الصالح وتأييد المواطن الصالح وتحركت غيرة المواطنة في السلوك والممارسة وتهيأت من ذلك صناعة الهوية في أكمل مشاهدها، فحب الأوطان الحقيقي والغيرة عليها متى حلت بفكر الإنسان؛ ظهرت معها الحمية الوطنية وولعت بمنافع المدنية، فحصل لذلك الوطن من التمدن الحقيقي المعنوي والمادي كل خير، حيث يقدح زناد الكد والكدح والنهضة بالحركة والنقلة والإقدام على ركوب الأخطار لإصلاحه وتنميته. إن المسلم المتشبع بقيم دينه وروح تعاليمه، لا يمكنه إلا أن يكون مواطنا مسئولا ومتضامنا مع مواطنيه وغيورا على وطنه، فالإسلام يحض أفراده على الارتباط والولاء للأوطان، وذلك لا يتنافى مع الدين، بل المواطنة الحقيقية ترتقي مع معاني الإيمان عند المسلم إلى منزلة الواجب الديني والأخلاقي. والمواطنة تفرض على المسلم أن يكون ملتزما بتعاليم وطنه الصالحة، وأن ينبذ العنف بكل أشكاله، وأن يفي بواجبات المواطنة السوية والمشاركة الإيجابية في كل مناحي الحياة سواء كانت هذه المشاركة ترشيحا أو انتخابا، فالمسلم الواعي يساهم في تدبير موطنه بكل الوسائل الممكنة لإحداث التغيير الايجابي في بلده والإسهام في خدمة الصالح العام. ومن مظاهر المواطنة الصالحة المشاركة والعمل في بناء المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية التي تدعم وجوده الثقافي في بلده، وتساهم في تنوير أبناء بلده مسلمين كانوا أو غيرهم. فالمسلم متعبد بالإيمان بكل مظاهره من الصلاة إلى إماطة الأذى عن الطريق الذي هو أدنى درجات الإيمان، فلا يتكاسل في إسداء المعروف لغيره أو إحقاق حق يستطيعه، بل المسؤولية مضاعفة بالنسبة إليه، فهي مسؤولية إيمانية ووطنية. فلا يقتصر عمل المسلم على اجتهاده في الحماية من الفتن والوقاية من المحن المحتملة، بل يتعدى ذلك إلى ربط الصلة بينه وبين مجتمعه وتوسيع نشاطه الواجب والحسن حتى يستغرق كافة المواطنين على اختلاف معتقداتهم، لأن ذلك من مقتضيات الرحمة بالعالمين والخيرية في هذه الأمة. قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وقال: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا) وقال: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون). فالإصلاح لا تحده حدود جغرافية، والنهي عن الفساد في الأرض يصدق على الأرض كلها ولو كان المسلمون أقل، فجدير بالمسلم العمل قدر الوسع حتى لا يدركه الوعيد بالهلاك بالتفريط في القيام بالواجب الديني والأخلاقي، وهذه سُنة جارية في حق من سبق، ويمتد إلى قيام الساعة.