•• هناك ثلاثة أمور هامة لابد من التوقف أمامها ونحن نحتفي هذه الأيام.. بالوطن وخيراته.. ونتذكر معه أننا وطن مختلف بكل المقاييس.. وعلينا أن نقف أمام قداسته إجلالا.. وأن نمنحه ما يستحق من «تعظيم» وأن نهنئ أنفسنا في كل وقت بالحياة فيه .. وبالانتماء إليه. •• أول تلك الأمور هي: أن من طبيعة الأوطان التي وهبها الله قيمة عالية كالتي عليها وطننا.. أن نخاف عليها ولكي نجسد هذا الخوف.. فإن علينا أن نكون مثلا وقدوة لكل الأوطان الأخرى.. ولاسيما في كل ما له علاقة بالقيم والأخلاقيات النابعة من ثوابت إيمانية عظيمة انطلقت من فجاج مكةالمكرمة وشعت في كل أرجاء الدنيا. •• بكل تأكيد فإن تلك الثوابت تؤسس لحضارة إنسانية غنية بكل ما هو إيجابي وبناء غايته السمو والارتقاء والنماء والتقدم واحترام العقل وتنمية القدرات والملكات وتأصيل معاني الشرف والكرامة والعدل والسماحة والتنوير على الدوام.. •• فهل نحن كذلك حقا؟! •• أطرح السؤال وأنا أدرك أن لدينا مشكلة كبيرة في هذا الجانب.. وأن مصلحة الإنسان ومصلحة الوطن تفرض علينا أن نحسمها.. بدل أن نتركها للزمن.. أو أن نتجاهل وجودها.. أو أن نعجز عن اتخاذ ما يجب علينا أن نتخذه تجاهها. •• تلك المشكلة هي: الخلط الشديد بين تلك الثوابت العقدية.. وبين ما طرأ أو استجد أو دخل عليها من تعريفات.. وتخريجات.. واجتهادات.. بحيث جعلت مجتمعنا يعاني كثيرا من «التطرف» بوجهيه.. وأقصد بذلك التطرف في جانبه الديني.. والتطرف في جانبه اللاديني.. بالرغم من سماحة عقيدتنا السماوية وكذلك بالرغم من الطبيعة الإنسانية الغالبة على تفكير الأغلبية العظمى من أبناء المملكة المؤمنين بمنهج الاعتدال والوسطية ونبذ التشدد والتطرف في التفكير أو في الممارسة أو في الحكم على الأشياء.. •• هذه الحقيقة تقول إن مجتمعنا منقسم على نفسه إلى ثلاث فئات.. فئة «منغلقة» وغير مستعدة للتنازل عن أفكارها وقناعاتها.. وتنظر إلى الآخرين على أنهم «كفرة» و«خارجون» و«منحلون» و«منسلخون» فكريا عن الثوابت وتحاول هي أن تفرض ثقافتها ورؤيتها على المجتمع من خلال بعض المواقع والقنوات، مستغلة أخطاء الفئة الأولى التي قدمت وتقدم نفسها بصورة مهزوزة وغير مقنعة وغير مؤثرة أيضا.. وفئة ثالثة تتابع معارك وممارسة الفئتين السابقتين بخوف كبير على البلد وأهله لكنها تبدو ضعيفة وغير فعالة في مجتمع تسيطر عليه الفئتان السابقتان بقوة.. وتكاد أن تجرا البلاد والعباد إلى ساحة مواجهة في أي لحظة بفعل درجة التشبع التي وصلتا إليها على حساب قيم الأمة وثوابتها العظيمة. •• هذه الفئة الثالثة رغم أنها تريد الخير والأمان والسلامة لهذا الوطن.. تفتقر إلى «الإرادة» «الفاعلة» وإلى القرار.. لكي تحفظ لبلادنا توازنها وتمنعها من التعرض لحروب دامية تؤججها نسبة الأمية العالية من جهة.. وبعض المظاهر القبلية والعصبية الشديدة بالإضافة إلى حالة التشوش والارتباك التي تسيطر على تفكيرنا العام في ظل اهتزاز الهوية الثقافية بفعل الصراع المحتدم بين القوى الثلاث.. •• إن هذه الحالة الثقافية المأزومة.. تستوجب تدخلا قويا من قبل الدولة.. يؤدي إلى إعادة صياغة تفكير المجتمع السعودي في ظل رؤية علمية منهجية وسياسات واضحة ومحددة تعالج الاختلالات الموجودة في فكر المؤسسات التعليمية والتربوية والدينية والإعلامية والثقافية وصولا إلى صياغة نهائية لفكر الإنسان تقوم على أساس قطعي وحاسم يمهد لقيام أنظمة وتشريعات جديدة ومحددة لا تسمح بالتجاوز أو الخروج أو استمرار الارتباك.. ولا تعين على استمرار حالة فوضى التفكير والاجتهاد والتجارب غير المقبولة بالمقاييس العصرية.. والوطنية لما ترتبه على الوطن من أعباء أمنية فوق الطاقة. •• وللحقيقة والعدل فإن الدولة بدأت عملية مراجعة شاملة لأنظمة التعليم والقضاء والإعلام.. ولجوانب الهيكلة والتنظيم الإداري التي ساعدت إلى حد ما على تفكيك بعض الكتل الفكرية وأخضعتها لمأسسة مبكرة كان يجب أن تستمر بنفس القوة التي بدأت بها قبل أكثر من عشرين عاما وكان مقدرا لها أن تعطي ثمارا إيجابية.. لولا العقبات الكبيرة التي واجهت عملية التحول والتغيير الفكري السائد.. •• وللحقيقة والتاريخ أيضا فإن ما قام به الملك عبدالله منذ تسلم مقاليد الحكم في 26/ 6 / 1426 ه استكمالا لما بدأه إخوته الملوك من قبله كان يشكل منعطفا هاما في اتجاه الإصلاح للمؤسسات الأربع السالف ذكرها وإن احتاج الأمر الآن إلى مراجعة أعمق لما تحقق في هذه المجالات على أرض الواقع.. وتحديد المشكلات والعقبات التي اعترضت طريق الإصلاح لكل مجال على حدة.. •• ذلك أن أكثر الخبراء والمتخصصين تفاؤلا كانوا يدركون مدى الصعوبات الكبيرة التي تواجه عملية التحول المنشود بعد أن توفرت الإرادة وحضر القرار بقوة وبالتالي فإن مواصلة عملية الإصلاح تفرض مثل هذه الوقفة الهامة للغاية لأن مظاهر الانقسام الفكري لاتزال ماثلة أمامنا.. وعوامل المقاومة للتغيير مازالت صلبة ومتماسكة وغير مستجيبة بالدرجة الكافية.. ونتيجة لهذا وذاك فإن المجتمع مازال يعاني من حالة الصراع والتقوي التي تمارسها الفئتان المتمكنتان من البنية الفكرية والاجتماعية في بلد أخذت موازين المعدلات السكانية فيه تتغير بفعل دخول هويات وثقافات أخرى إليه بأعداد قد تتجاوز في وقت قريب ثلث عدد السكان الإجمالي.. وذلك وضع في حالة استمراره أو تناميه قد يفرض واقعا جديدا ومعقدا بدخول هذه القوة الجديدة في المعادلة الثقافية المحلية فيغلب كفة فئة على حساب فئة أخرى.. •• لكل ذلك أقول: إن الهوية الوطنية بحاجة إلى حماية وإلى تأمين بالفصل بين فئتي الصراع ليس لصالح فئة منهما على حساب الأخرى وإنما لصالح الفئة الثالثة الخافتة الصوت والتي تنادي بفرض ثقافة الاعتدال وتصحيح المسارين الفكري والاجتماعي للفئتين الأوليين وذلك يتطلب: • (1) وضع الجميع أمام حقيقة هامة وأساسية وهي: أن هوية الدولة الإسلامية مسألة مستقرة وأن أي تفكير آخر غير وارد في وقت من الأوقات، ولذلك فإن تصنيف الدول بين دولة دينية ودولة مدنية لا ينطبق على بلدنا الذي يقدم للعالم نموذج دولة حضارية مختلف تماما لها قيمها وثوابتها ولديها رؤيتها الحية والمتفاعلة مع كل المعطيات الإنسانية على اختلافها.. وبما يحقق مصلحة البلاد والعباد على حد سواء ويجعل بلادنا حاضرة في كل الأوقات وعلى جميع الأصعدة وفي كل المحافل باعتبار نظامها الإنساني نظاما يستوعب الكل وينأى بنفسه عن العزلة والانغلاق أو الخروج على القيم الحضارية والإنسانية المستقرة وأن على الجميع وفي مقدمتها مؤسسات الدولة الثلاث.. أن تنضوي تحت مظلة الدولة الضامنة لسلامة الجميع لأنه لا سلطة في هذه البلاد فوق سلطة الدولة على الإطلاق. • (2) إن اختلاف الاجتهادات والرؤى في ظل نظام قوي ومتماسك.. يدرك مصالح البلاد جيدا ويرعاها بمسؤولية، لا مكان لها في عالم يموج بالفتنة، والأخطار، والتوترات.. وبالتالي فإن المسؤولية الوطنية تحتم على الجميع الانصهار في بوتقة العمل الوطني الشامل.. كأولوية مطلقة تحتمها الاعتبارات الأمنية والسياسية والاجتماعية وتفرضها موجبات المواطنة الحقة.. •• وإن من حق الدولة أن تمارس كامل حقوقها ومسؤولياتها بمواجهة أي عملية إخلال بأمن الوطن وسلامته، وسيادة الدولة واستحقاقاتها.. منعا لأي تدخلات خارجية في الشأن الداخلي البحت. • (3) إن إعادة الصياغة لفكر البلد بهيئاته ومؤسساته الحكومية والأهلية هي مسؤولية مشتركة لابد من أن يشارك فيها الجميع بطواعية.. وتعاون وفي ظل وئام تام.. وأن خروج أي طرف عن هذا المسار سوف يعطل عملية الإصلاح.. ويعرض البلاد لأخطار جسيمة بفعل استمرار حالة الانقسام التي لا يجب السماح باستمرارها. [ الخلط بين الولاء والانتماء ] وثاني هذه الأمور: •• استمرار حالة «التلبك» الفكري لدى المجتمع بعامته تجاه مسألة «الولاء والانتماء» والخلط الشديد بينهما.. وتسامح الرؤية الرسمية نحوهما وتعاطي البعض معهما بشكل ملتبس شوش علينا ومازال كثيرا جراء استمرار تلك الحالة.. •• فلا المناهج الدراسية حسمتها.. ولا منابر المساجد أوضحتها.. ولا الإعلام فسرها لنا وأبانها.. ولا المجتمع عرف كيف يتعامل معها بالوعي الكافي والمطلوب .. وتلك حالة يجب أن يتم الفصل فيها وعدم تركها مفتوحة حتى لا تترك بصماتها على الأجيال القادمة بعد أن وضح أثرها الآن على جيلنا الحالي.. •• وقد نشأ عن الخلط بين المصطلحين ما يمكن وصفه بالانقسام الفكري داخل الأغلبية الغالبة من أبناء الوطن وسوف أورد فيما بعد نماذج من مظاهر التشوش والارتباك التي عانينا ونعاني منها.. •• ولأننا لا نكاد نميز بين مفهوم الولاء ومفهوم الانتماء فإن الأثر يبدو شديدا على وحدتنا وتماسك مجتمعنا.. بالرغم من أن الفارق واضح وبيّن بينهما.. •• فالولاء لله سبحانه وتعالى أولا وأخيرا وهو مسألة غير قابلة للتفسير أو التأويل أو التحوير بنص كتاب الله وبأفعال رسله وأنبيائه وبحكم الفطرة التي فطر عليها الإنسان بطبعه.. •• أما الانتماء فهو مسألة دنيوية أخرى لأنها ترتبط بالوطن الذي نعيش فيه.. وننتمي إليه.. ونعمل ونضحي من أجله.. ونخلص له.. دما.. وهوية.. وفكرا.. وشعورا صادقا ونقيا .. وغير قابل للمراوحة أو التجزئة أو الاختراق.. [ الولاء لله ثم للوطن ] •• والفارق هنا بين «الولاء» المطلق لله سبحانه وتعالى وبين «الانتماء» للوطن هو في الجوهر.. وليس في العبارة أو المصطلح.. لأن «الولاء» هنا فيه وحدانية وتفرد وإحساس بالكون وبالوجود وبخالق هذا الكون وهذا الوجود.. وبالتالي فإن هذا التفرد يجعله غير قابل للتراتبية أو المقارنة أو التدرج.. بمعنى أن أقول إن الولاء لله سبحانه وتعالى (أولا) ثم للوطن (ثانيا) .. لأننا عند ذاك نقارن بين ما هو أبدي.. وروحاني.. وإلهي وبين ما هو مادي.. وعاطفي.. ومدرك.. وهذا خطأ لا يجب الوقوع فيه أو القبول به.. لأن الله فوق كل شيء.. باعتبار إأن مفهوم الولاء أخذ الصفة المطلقة والفريدة والغيبية.. [ الانتماء الأصيل للوطن ] •• أما الانتماء.. فهو قيمة وطنية.. وأخلاقية واجتماعية.. تكتسب أهميتها من أنها ذات دلالة سياسية وعاطفية في آن واحد.. لها صفات وخصائص.. إما تاريخية أو مجتمعية.. أو هيكلية تحددها الأنظمة والقوانين ودساتير الدول وتركز عليها لتعميق الارتباط بين أبناء الدولة الوطنية الواحدة والموحدة باعتبار أن مقومات الدولة السيادية ثلاث هي: الأرض.. والسكان.. والنظام.. •• ويحدد النظام الأساسي للحكم في المملكة هذه المسألة بدقة متناهية من خلال نص المادة (1) حيث تنص على أن «المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة، دينها الإسلام ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولغتها هي اللغة العربية وعاصمتها مدينة الرياض» . وكذلك المادة (6) ونصها: «يبايع المواطنون الملك على كتاب الله تعالى وسنة رسوله وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره». والمادة (7) وتنص على أنه «يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى وسنة رسوله .. وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة». والمادة (8) ونصها : «يقوم الحكم في المملكة العربية السعودية على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية» .. وذلك بحكم الولاء لله سبحانه وتعالى ولاء مطلقا ومتفردا.. ثم بحكم الانتماء للوطن في ظل البيعة الكاملة لولي الأمر.. الذي يتحمل أمانة مسؤولية إدارة وطن وشعب ودولة في بلد آمن ومستقر وفرته له البيعة وصادق المواطنة تحت مظلة شريعة سماوية عظيمة.. •• وفي هذا الإيضاح التام للفارق بين ولاء مطلق لعقيدة سماوية خالدة.. وغير قابلة لما أشرنا إليه في السابق بالتراتبية.. أو التدرج، وبين مفهوم الدولة العصرية التي تقوم على أسس السيادة الوطنية المتعارف عليها دوليا.. والمتفق على تفاصيلها داخل كل دولة ووفق كل نظام ترتضيه شعوبها.. هو الذي يجب أن يقوم ليحسم مشكلة الخلط السالف ذكرها.. [ موقع البيعة من الولاء والانتماء ] •• ونحن هنا في المملكة العربية السعودية.. وانطلاقا من مفاهيم الحكم الذي رسمته لنا عقيدتنا.. ومن ثوابتنا الوطنية الأولى التي نستمدها من كتاب الله سبحانه وتعالى كنا باستمرار ومانزال ونظل نتعاهد فيما بيننا على التآخي والترابط والتلاحم في ظل العهد والبيعة التي قطعناها لولي الأمر فينا.. وهي بيعة له في أعناقنا.. متوارثة بين أجيالنا.. تعزيزا للانتماء الصادق والخالص والأمين لمن اخترناه وأطعناه وحملناه مسؤولية قيادتنا لنتفرغ نحن لأداء ما هو منوط بنا من مهام وطنية تنطلق من الانتماء المكاني والزماني والتاريخي للأرض التي أراد الله لنا أن نكون عليها.. نعمرها.. ونصونها ونحميها وندافع عنها ونموت فوق ثراها ولا نقبل بأن نكون لغيرها مهما تفاوتت رؤانا الفكرية أو السياسية أو الدينية أو الاجتماعية ومهما اختلفت بنا الدروب والأهواء.. •• والانتماء الوطني هنا وإن اختلفت الدول في «توصيفه».. بالدم.. أو الإقامة أو التاريخ .. تبعا لأنظمتها وقوانينها إلا أنه يظل الرابط الأول والأساسي لصدق المواطنة.. وعمق الصلة بالأرض وبالسماء وبالجغرافيا.. وبالقيم والأفكار والثقافة التي نشأنا عليها وربينا في أحضانها وتشربناها منذ ولادتنا حتى نهاية العمر بنا.. لأن دم الوطنية يظل رغم السموم.. والأوبئة التي تفد علينا من هنا وهناك نقيا.. ونظيفا.. وطاهرا.. وإن الثمن الوحيد الذي يدفعه الفرد للحفاظ على هذه الطهارة هو «الإخلاص» و«الوفاء» و«الصدق» في هذا الانتماء غير القابل للتلوث أو التأثير بصرف النظر عن «المذهب» أو «الاتجاه» أو «المؤثر» السياسي.. أو الفكري.. أو الديني.. الذي يكون عليه الإنسان.. وبالتالي فإن الانتماء للوطن لا يقبل التجزئة.. أو المشاركة.. أو الازدواجية.. وإن أي خروج على هذه الصفة هو خروج على الثوابت الوطنية.. ترفضه الأنظمة والدساتير ولا تقره خصائص المواطنة المرتبطة بالأرض وبالتاريخ وبالخصائص المشتركة.. ومن هنا جاء مبدأ رفض تعدد المرجعيات.. لأن المواطنة وحدة واحدة وكلية في كل زمان ومكان.. ××× •• نحن إذن أمام مستويين مختلفين من العلاقة.. أحدهما مستوى روحي.. وإلهي.. ورباني.. ومتفرد.. •• ومستوى دنيوي.. وعصري.. ومادي.. تدار به الأوطان وتتحدد ملامحها السياسية والفكرية والقانونية فيها.. وتتحدد من خلالها العلاقة بين الحاكم والشعب وبينهما وبين الوطن.. •• ولو أن هذين المفهومين واضحان في أذهاننا منذ البداية لما حصل الخلط السائد بينهما الآن.. ولما واجهنا مشكلة وطنية بهذا الحجم .. رغم وضوح النصوص .. ورغم تحديد الأنظمة والقوانين لمفهوم الوطنية سواء في جانبه الفكري .. أو العاطفي.. أو الجغرافي.. أو السياسي. •• وهناك شواهد كثيرة لمسناها ومانزال نشهدها على استمرار سوء الفهم هذا.. ومنها: •• رفض البعض حتى الآن الوقوف للعلم رغم أنه رمز الوطنية الأول.. •• ورفض البعض الآخر حتى الآن ترديد النشيد الوطني في الطوابير المدرسية الصباحية.. رغم أنه صلة اتصال عاطفية.. وقيمية بالأرض والنظام وبالوحدة الوطنية. •• ورفض البعض منا الاعتراف بأن الوطن قيمة أساسية عالية ومستمدة من «زمكانية» معتبرة.. ومن تكوين عضوي.. يختلط فيه الدم بالعاطفة والحس الإنساني.. وكذلك بالتاريخ والثقافة والتراث ولغة المكان والزمان وبالمصير في كل الأحوال. •• وإذا فقد هذا الرابط المركب . فلمن يمكن أن أنتمي أو أن أكون..؟. •• إن حقيقة الولاء لدين الله الحق.. ثابتة.. وغير مختلف عليها.. لكن هذا الارتباط كما قلت في السابق ارتباط علوي.. سماوي .. يتصل بالكينونة وبخالق الكون.. ولا يعامل معاملة دنيوية حياتية متأصلة أخرى نسجتها الطبيعة من جهة.. والثقافة والأنظمة والقوانين والأعراف الحياتية الملموسة من جهة ثانية.. وفارق كبير بين ما هو علوي سماوي .. وبين ما هو دنيوي ومادي وعاطفي.. [ الوطن قيمة عليا ] •• وإذا كان هناك ما هو أخطر من هذا الرفض لدى البعض لحقيقة الانتماء الأصيل للأوطان.. فإن ذلك يعتبر قفزا على الحقوق الوطنية الأساسية.. عندما يتحدث هذا البعض عن الولاء للأمة المسلمة باعتبار أن العقيدة هي الأساس والقاسم المشترك الأعظم بين أمم الأرض. •• ومع ما في هذا من تجاوز على حقوق الأوطان فإن فيه إلغاء تاما لمفهوم المواطنة بقصد سياسي هدفه النهائي إقرار مبدأ تعدد المرجعيات.. وإضعاف عامل الاتصال بالأوطان والانتماء الأصيل إلى الأرض.. بكل ما سوف يترتب عليه من تقديم الارتباط المذهبي أو الفكري أو السياسي.. على الارتباط الوطني بكل ما يستدعيه من حقوق وواجبات ومسؤوليات.. •• وعندما يفقد شعب هذا الرابط بوطنه بترابه.. وتاريخه.. وعروقه.. وأحاسيسه.. فإنه يفقد بذلك مصيرية الارتباط بكل تلك العوامل ويصبح مهيأ لتقبل أفكار جديدة.. ويصبح كذلك مستعدا حتى لخيانة وطنه والتنصل من دمه.. وتربته.. وتاريخه ومن تعهداته والتزاماته وبيعته وذلك هو الأشد خطورة والأعظم وبالا على الأوطان.. •• هذا الأمر أو كما أسميته بحالة التلبك الفكري لابد من أن نحسمها ولا نسمح باستمرارها.. والمجتمع والدولة قادران إن شاء الله تعالى على تجاوزها فالأمر ليس بهذه الدرجة من التعقيد أو التشابك والتداخل والضبابية إذا ما نحن أدركنا حقيقة هامة ألا وهي: (1) إن هناك ولاء مطلقا لله سبحانه وتعالى يقود إلى الولاء لعقيدة سماوية خالدة وعظيمة هي الإسلام.. وإن هذا الولاء فوق أي اعتبار آخر.. لأنه علوي وسماوي. (2) إن هناك انتماء أصيلا للأوطان فرضته عوامل جغرافية وتاريخية.. وعاطفية وحتمية.. وتكوينا سكانيا بشريا طبيعيا كانت الأرض فيه أول عوامل السيادة إلى جانب الشعب والنظام.. ولا يمكن الفصل بين ثلاثتهم بأي شكل من الأشكال.. (3) وإن هناك قاسما مشتركا أعظم في بلادنا بين الولاء لله سبحانه وتعالى ودين الله الحق وبين الانتماء الكامل للوطن بثرائه الثقافي والحسي والعاطفي والإنساني والأخلاقي.. هذا المشترك الأعظم بينهما هو «البيعة» لولي الأمر فينا.. والبيعة هنا معطى ثقافي وعاطفي وأخلاقي وسياسي غير متكرر.. ولا يتشابه (مثلا) مع ما تفرزه صناديق الانتخابات في العادة أو تعود إليه صيغ الاختيار للقادة في دول أخرى.. وإن كان الشعب هو العامل المشترك في هذه الأحوال مجتمعة.. وإن اختلفت الأدوات والوسائل والطرق اختلافا كبيرا وإن ارتبط الحفاظ عليها بالمعطيات والتطورات المختلفة في الأشكال الأخرى وليس في نظام البيعة على وجه التحديد. •• لو نحن أدركنا هذه الحقيقة .. لبادرنا إلى وضع حد للاختلاف حول مدلول مصطلحات: (الولاء.. الانتماء.. البيعة).. ولدفعنا عن بلدنا شرا عظيما يتربص بنا إذا نحن لم نعطِ أهمية خاصة لهذا الأمر لاسمح الله.. ولم نخضعه لإعادة صياغة فكرية عميقة تصدر بها تشريعات واضحة ومحددة في النهاية.. [ الدولة: وظائف ومهام ومسؤوليات ] • الأمر الثالث: ويرتبط إلى حد كبير بالعاملين السابقين معا ارتباطا وثيقا ومن المهم بل ومن الضروري أن نتوصل فيما بيننا إلى قناعة نهائية تخلصنا من حالة اللبس والارتباك التي نعاني منها كثيرا.. •• هذا الأمر هو تصنيف نظام الحكم في المملكة وتقديم المملكة على أنها دولة دينية وليست دولة مدنية.. •• والحقيقة إنني بحسب فهمي وبما لدي من معطيات ومن تحليل موضوعي لنظام الحكم في بلدي.. أزعم أننا لسنا دولة دينية.. ومن الخطأ أن يفهم كلامي هذا عند العامة على أنني أتنصل من أننا دولة شريعة سماوية خالدة .. لأن ذلك ليس صحيحا على الإطلاق وإنما الصحيح هو أننا نتحدث عن النظام بمواصفاته السياسية وليس عن النظام بخلفيته الفكرية.. لأننا نتحدث هنا عن المؤسسات التي يقوم عليها الحكمفي أي بلد.. وليس على ثقافته.. أو على مرجعيته.. لأن مسألة المرجعية في هذا البلد محسومة وغير قابلة للنقاش أو الاجتهاد والتحليل.. •• وهنا فارق كبير بين أن نتحدث عن النظام في تكوينه السياسي والإداري والهيكلي.. وبين مرجعيته الثقافية وهما لا يتعارضان مع بعضهما البعض بأي شكل من الأشكال بل إن الصحيح هو أنهما يتكاملان تكاملا تاما وأصيلا.. *** •• فإذا حصل الفهم لهذا الفارق فإننا نستطيع بكل تأكيد وبشيء من الدراسة العلمية المجردة.. وبمعايير أسس قيام الدول وتشكل الأنظمة وبناء السياسات فيها.. إدراك حقيقة أننا في هذه البلاد نعيش في ظل «دولة حضارية» تجمع بإتقان وفي سياق تاريخي وثقافي وموضوعي مشترك بين دولة ثوابت إيمانية.. هي الأصل والمرجع.. وبين فكر سياسي وإداري وهيكلي حضاري متفاعل تفرضه واجبات الدولة تجاه أرض وشعب لهما حقوق وعليها تجاههما مسؤوليات مدنية تبدأ بتحديد الهوية وتنتهي بحقوق الملكية وتمر بتسيير شؤون دولة تعيش وسط عالم تحكمه المصالح وتتحكم فيه المسؤولية الإنسانية بشكل عام. •• هذا الإدراك العميق.. لهذه الكيمياء السياسية المتمكنة التي جمع فيها النظام السياسي في المملكة العربية السعودية بين الهدف والأداة والغاية وبينها وبين المرجعية الثقافية الكلية.. هو نموذج غير متكرر في هذا العصر على الأقل. [ بعد إنساني للعلاقة بالأوطان ] •• ولعل ما يؤكد كلامي بأن المملكة لم تكتفِ فقط بهذه المزاوجة الحكيمة بين ما هو ثقافي ومادي.. هو التوجه العام الذي قاد إليه ملك هذه البلاد عبدالله بن عبدالعزيز الأسرة الدولية بإطلاقه الدعوة إلى الحوار بين أرباب الأديان والثقافات من مكةالمكرمة في (30 / 5 / 1429ه) الموافق (1 / 6 / 2008 م) والذي أصبح توجها عالميا بعد تبني الأممالمتحدة له.. وتنفيذها مقترح المملكة بإقامة مركز الحوار الدولي بين أتباع الأديان والثقافات في «فيينا» والذي افتتح في (26 /11/ 2012 م).. •• لذلك فإن الحديث الآن عن «الولاء» أو «الانتماء» بهذا المستوى من الوعي وبلغة مختلفة عن فهم العامة كفيل بأن يصنفنا في إطار الدول التي تنتهج «عالمية التفكير».. دولة قدمت قيادتها لهذا العالم فهما جديدا للمواطنة الإنسانية.. •• إذا نحن وصلنا أو اتفقنا على هذا الفهم المتقدم.. فإن علينا أن نكون جزء منه.. لاسيما أنه كان صادرا من وطننا.. ومعبرا عن رؤية قيادة مؤمنة أدركت أن مصدر تعاسة الإنسان هو استمرار الصراعات بفعل خلافات أيديولوجية وتعارض مصالح مادية.. وأن على دول ومجتمعات العالم أن تتغلب على مشكلاتها تلك بالحوار وصولا إلى التقارب.. والتفاهم على مشتركات.. ولا أظن أن هناك ما هو أفضل من الهوية «الإنسانية» كمشترك عام.. وهو مشترك يؤصل ولا يلغي الحقوق الوطنية أو الانتماءات التالية لها بعد ذلك وليس قبلها أو فوقها أو على حسابها. [حان الوقت لإقرار هذا الفهم ] •• وفي مثل هذه الأيام العظيمة التي نحتفل فيها بتوحد الوطن بعد أن ظللنا لسنوات طويلة نتجاهله.. أو لا نقترب حتى منه.. فإن علينا أن ندرك حقيقتين هامتين هما: •• أولا: إن المنطقة التي نعيش فيها تفرض حدا أعلى من التفاهم والاتفاق بين أبناء الدول المستقرة.. وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية حول قضايا مختلف عليها من هذا النوع لأنها كانت سببا في كل ما حدث ويحدث من حولنا.. وأن الالتفاف حول بعضنا البعض وأنه بالعمل المشترك بين الدولة والمواطن نستطيع أن نحصن أنفسنا وبلدنا ونظامنا السياسي ضد تلك الموجات العاتية والمدمرة.. بحول الله وقوته.. وضد كل من يريدون بنا شرا حتى نتمكن من مساعدة إخواننا الذين دخلوا في أنفاق مظلمة على النجاة بأنفسهم وأوطانهم.. وتلمس طريق السلامة والاستقرار والخلاص من الأوضاع.. التي غرقوا فيها.. •• ثانيا: إن مسيرة الإصلاح الجادة لابد أن تستمر بعد تقويم كل ما تم في هذا الاتجاه من خطوات.. وإن كان ذلك يرتب علينا وطنا ومواطنين ودولة معالجة منهجية لبعض الأوضاع التي تتطلب تصحيحا هدفه تعزيز الثقة بين الجميع.. وتطوير روح المسؤولية المشتركة في تنمية الوطن وحمايته وبما يحقق الرضاء العام.. ويمنع كل محاولات الاختراق أو التأثير ويجند الكل للدفاع عن أقدس البقاع وأطهرها.. ومواصلة الافتخار بالانتماء إليها والاعتزاز بقيادتها الحكيمة فيها.