يختفي الكثير من الإبداعات ويتلاشى العديد من القدرات وتخفت الآلاف من النجوم في مهد بزوغها يبتلعها ثقب التقليد الأسود ثم لا يبقى لها ذكر أو أثر. وهذه قاعدة تشمل العلوم والثقافات والآداب والفنون بلا استثناء، إذ إن التقليد هو مقبرة المبدعين وهو النهاية الحقيقية للموهوبين، وهو نقطة النكوص إلى الوراء لكل النابغين. وإن كان التقليد للرموز والنجوم في بدايات المبدع والموهوب أمرا حتميا بل هو ضروري في تلمس الخطوات الأولى للوصول إلى المراحل المتقدمة غير أن كثيراً من هؤلاء النابغين تخطف أبصارهم الشهرة الساطعة للنجوم والرموز الأمر الذي يفقدهم التركيز ويصيبهم بالارتباك فيظلون ضمن تلك المسارات المستنسخة طويلاً ثم تنطفئ شعلة موهبتهم وتخفت جذوة إبداعهم فيختفون تماماً من المشهد الثقافي والعلمي والأدبي والثقافي والفني، فالجمهور عادة لا يعبأ بالنسخ المقلدة. ولهذه الظاهرة أسباب ووجوه ويبدو للوهلة الأولى أن ثمة إعجابا أو ربما أنانية لدى الرمز أو النجم في نفسه، هذه النرجسية تمنعه أن يتبنى المواهب فضلاً عن أن يصنع لها أو يختار لها أو يوجهها إلى طريق جديد، أتراه يعتقد حين يقوم بذلك أنه سيصنع له في الميدان منافسين مستقبليين يزيحونه عن عرش النجومية والشهرة أم أنه نوع من الاستمتاع بوجود النسخ الكربونية باعتبارها رصيدا جماهيريا إضافيا لا يمكن التفريط فيه بأي حال؟. ولئن كان التقليد بوصفه تأثرا طبيعيا في البدايات لكل مبدع وموهوب إلا أن الخروج من شرنقة التقليد وتجاوز هذه الدائرة العتيدة يحتاج إلى إرادة قوية، وهذه لا تتأتى إلا من موهوب حقيقي يعرف ببصره ويعي ببصيرته الوقت المناسب للانعتاق من ربقة التقليد والتحول إلى شخصيته الخاصة التي تميزه عن غيره. وقد يبلغ التأثر من المبدع بشخصية ما حداً يفوق الانبهار إلى الانصهار الكامل تحت عباءة المقلد، وبعض هؤلاء لديهم قناعة تامة أنهم بطريقتهم تلك يستنزفون إبداعاتهم ويهدرون طاقات مواهبهم بيد أنهم وبرضا تام يظلون على هذا المنوال لسنوات طوال، وتتمنى لو أنهم شقوا طريقاً خاصاً بهم لأصبحوا في عداد الرموز في لمح البصر، ولكن من التقليد ما قتل الكثير من الكفاءات والطاقات الاستثنائية. وللأسف حين نتداول أنساق هذه الظاهرة وندلف إلى زواياها فسنجد أننا ضمن هذا الإطار نقع على طرفي نقيض فهناك من ينطبق عليه مثل عربي يشير الى أن بعض أنصاف الموهوبين وأشباه المبدعين أرادوا في بداياتهم أن يقفزوا الدرجات مرة واحدة وأن يحرقوا المراحل ويختزلوها في سنوات قليلة ليضعوا أنفسهم في مصاف النجوم والمشاهير فكان عاقبة أمرهم سقوطاً مدوياً، فالنقاد وعدد كبير من الجمهور الذي أصبح واعياً يميزون بين من يمتلك موهبة حقيقية وبين أدعياء الثقافة والأدب والعلوم والفنون، هذا طرف والطرف النقيض أنك تجد من يملكون شخصية الرمز وقوة الموهبة والإبداع ولكنهم ظلوا ولا يزالون تحت عباءة التقليد إلى الدرجة التي جعلت الناس ينأون عنهم وعن نتاجهم سلفاً لمعرفتهم المسبقة بطبيعة المنتج المقلد الذي يدورون في فلكه ولا يتعدونه قيد أنملة. ولا شك أنه بقدر ما يرسم الموهوب والمبدع طريقاً له بعد أن يصل إلى مرحلة (النضج التام) بقدر ما يصنع له لوناً جميلاً وطيفاً رائعاً ونكهة فريدة تميزه عمن حوله وتلفت الأنظار إلى منتجه إلى مستوى من الإشادة والاحتفاء. وبالتأكيد فهي قاعدة عامة فلا تجد واحداً من الرموز والنجوم والمشاهير إلا وقد خرج من عباءة التقليد وقيودها الفولاذية ولا يخفى أن الشهرة والنجومية هاهنا لا تطلب بذاتها بل تأتي بشكل طبيعي وسلس وتلقائي لمن يستحقها، فالمبدع الحقيقي هو من يعمل ويعطي ويبدع ويطور من ذاته ويزيد من قدراته بالقراءة والدراسة والتدريب وينهل من جميع الأوعية المعرفية يلتقط منها ما يفيده كما يلتقط الصائغ أجمل الجواهر وأندر اللآلئ ثم يقدم نتاجه في الوقت المناسب والمكان المناسب ثم ينتظر ردة الفعل إيجاباً وسلباً فيعزز الإيجابيات ويتفادى السلبيات في قادم الأيام. وأزعم أن من أهم الأدوار الرئيسة للمؤسسات الثقافية والعلمية والفنية والأدبية توجيه الموهوبين والنابغين والمبدعين إلى خطورة التقليد، وما الوقت المناسب والحد الفاصل الذي ينبغي فيه للموهوب أن يتوقف عن التقليد وينفرد في عالمه الخاص ليقدم شيئاً جديداً. وتجدر الإشارة إلى أن الانعتاق من عباءة التقليد ليس معناه تبني موقف عدائي أو توجه مضاد لمن يقلدون فهذا نوع من نكران الجميل وهذه من صفات غير الأوفياء، الصحيح أن يبقي المبدع على الأساس الذي ينطلق منه ويحافظ على الحد الأدنى من التقليد الذي بدأ من خلاله ثم يرسم خارطة طريق خاصة به. وكم يتحسر النقاد والمهتمون حين ينظرون بنظرة فاحصة للمشهد العلمي والثقافي والأدبي والفني فيجدون هدراً غير مبرر لآلاف المبدعين لا يزالون يمارسون الاختباء تحت عباءة التقليد ثم يتساءلون: إلى متى؟!