تجب سرعة البدء في إنشاء محاكم متخصصة في القضايا الطبية والاستعانة في هذه المحاكم بخريجي قانون وشريعة متخصصين في المجال الطبي تحدثنا في المقالات السابقة عن الأخطاء الطبية وسقنا الحديث فيها بالتعريف بالممارس الصحي وكيف يمارس مهنته من منظور قانوني، وما هي واجباته تجاه مرضاه، كما بينا أن العمل الطبي دائما يستهدف مصلحة المريض وأن العلاقة بين الطبيب والمريض هي علاقة إنسانيه قبل أن تكون عقدية، وأن عمل الممارس الصحي لا يخلو من المساءلة في حال إخلاله بواجباته العملية، كما عرفنا الخطأ الطبي وتكوين الهيئة الصحية الشرعية واختصاصاتها وكيفية إصدار قراراتها، وعن إجراءات رفع الشكاوى من المضرور من الخطأ الطبي، وكيفية التحقيق والتحقق من وقوع الخطأ وإصدار القرار بالشكوى وسوف نعرج بالحديث في هذا المقال عن التعويض في حالة وقوع خطأ طبي، وضرب بعض الأمثلة لأحكام صدرت من الهيئة الصحية الشرعية. فالتعويض جمع تعويضات والمصدر (ع و ض) ويقال في اللغة أعطاه عوضًا عنها، أي أعطاه بدلا عنها وخلفا منها، ومما ذكره فقهاء الشريعة القدامى عن مفهوم التعويض أنه (رد بدل التالف) وقد عرفه الفقهاء المعاصرون بأنه (ما يجبر به المتسبب في الضرر من عين أو قيمة) وقد تطرق المنظم السعودي في المادة (28) من اللائحة التنفيذية لنظام مزاولة المهن الصحية لكلمة تعويض دون تعريف لمعنى التعويض حيث ذكرت هذه المادة الخطأ الطبي بأنه (كل خطأ مهني صدر من الطبيب أو من أحد مساعديه، وترتب عليه ضرر للمريض يلتزم من ارتكبه بالتعويض وتحدد اللجنة الطبية الشرعية المنصوص عليها في هذا النظام مقدار التعويض) وقد اتفق الفقهاء على أن الممارس الحاذق لا يسأل عن الضرر الذي يصيب المريض ولو مات المريض بسبب العلاج، مادام المريض قد أذن له بعلاجه، ولم يقع من الطبيب خطأ في هذا العلاج، بل كان الضرر نتيجة لأمر خارج عن إرادة الممارس الصحي وغير متوقع، وكما أوضحنا في مقالاتنا السابقة أن الممارس الصحي لا يقتصر على الطبيب بل هو كما بيناه في المقال الأول تعريفا، أما أنواع الضرر الواقعة على المريض والتي يسأل عنها الممارس الصحي فهي نوعان، وهي لا تختلف عن أنواع التعويض في الفقه الجزائي، وهما ضرر مادي وضرر معنوي فالضرر المادي ينقسم إلى نوعين ضرر مادي على بدن المريض، وضرر مادي على مال المريض، فالضرر المادي على بدن المريض هو كل ما يصيب المريض في بدنه أو جسمه والمثال على ذلك، قيام الطبيب بإعطاء المريض دواء معينًا ترتب على تناوله إلحاق ضرر به، أو مثل قيام الطبيب باستئصال عضو سليم بدلا من العضو التالف، أما الضرر المالي فهو تسبب الممارس الصحي في إلحاق ضرر مادي أدى إلى إتلاف أموال المريض والمثال على ذلك عندما يقوم طبيب الأسنان بحشو أسنان أحد المرضى بحشوة مؤقتة، بدلا من الحشوة الدائمة التي تم الاتفاق عليها، فإن من حق المريض استعادة ما دفعه من أموال نتيجة عدم التزام الطبيب بعمل المتفق عليه، أما النوع الثاني من الضرر الذي يصيب المريض فهو الضرر الأدبي وهو كل ما يصيب المريض في شعوره أو شرفه أو كرامته، كالأضرار المترتبة على إفشاء الممارس الصحي لأسرار مرضاه، والنظام السعودي لا يأخذ إلا بالضرر المادي فقط دون الضرر المعنوي، مع أن هناك حكما للمحكمة الإدارية أوجب تعويضا لمدعي عن الضرر غير المادي (المعنوي) الذي لحق به نتيجة سجنه دون مبرر نظامي أو شرعي لذلك، وهناك مثال أيضا وهو الدية التي تدفع لورثة المتوفى ليست في كل الأحوال عقوبة أو تعويض عن الضرر المادي الذي أصاب الورثة نتيجة فقدهم لمورثهم بل قد يكون لها طابع معنوي، لأن المورث في بعض الحالات لا يكون مصدرا للدخل بل على العكس. وسوف نورد مثالا كتطبيق قضائي لما سبق ذكره من مفهوم ومبادئ وضوابط للخطأ الطبي والتعويض عنه وآلية وإجراءات عمل الهيئة الصحية الشرعية وذلك في المثال الآتي: تقدم احد المدعين بدعوى ضد احد المستشفيات الخاصة وطلبت منه الهيئة تحديد وحصر دعواه وأسماء الممارسين الصحيين المدعى ضدهم، وطلباته بالتحديد، فذكر في دعواه أنني دخلت إلى احد المستشفيات (الخاصة) بغرض إجراء عملية فتح بالجانب الأيمن بالمنظار، فأخبرني الطبيب بأن العملية لن تستغرق أكثر من نصف ساعة، ولكن تفاجأت بعد إفاقتي من التخدير بوجود جراحة في المثانة علاوة على عملية المنظار إضافة إلى قسطرة لإخراج البول وقد بقيت في المستشفى خمسة أيام، وحملت القسطرة معي إلى البيت طيلة أسبوع كامل وبسؤال الطبيب عن سبب ذلك، أفادني أنه اكتشف ورمًا سرطانيًا في المثانة أثناء عملية الفك مما دعاه إلى فتح المثانة وإزالته، حينها طلبت من الطبيب رؤية العينة السرطانية المزعومة، فأخبرني بأنه أرسلها إلى مختبر خارج المستشفى وأنه سوف يوافيني بالتقرير عنها مستقبلا، وقد زرته في العيادة بعد العملية عدة مرات نتيجة لآلام في عملية الفتق، وفي كل مرة أطلب منه التقرير والقرص الممغنط للعملية وكان يخبرني أنه سوف يعطيني ذلك مع تقرير العينة، ورأيت أن المدة قد طالت فذهبت إلى مستشفى آخر لمعرفة سبب الألم في العملية، فأخبرني الطبيب الآخر بأن عملية المنظار لإصلاح الفتق لا يمكن أن يكتشف فيه ورم في المثانة، وحولني على طبيب المسالك بالمستشفى الذي أكد لي ذلك وأجمع الطبيبان على ضرورة إحضار تقرير عن العملية والقرص الممغنط لمعرفة أسباب الجرح بالمثانة، ورجعت إلى الطبيب الأول الذي تهرب مني ولم يعطني أي شيء ولم أحصل على تقرير عن العملية ولا القرص، وأطلب تعويضي ماديا لما عانيته جسديا بوجود جراحة في المثانة غير ضرورية، ومعاناتي معنويا أنا وجميع أفراد أسرتي لإخباري بوجود سرطان في جسمي، وعند عرض الدعوى على المدعى عليه أجاب أنه اجرى العملية، للمدعي حسب ما هو متعارف عليه طبيا ولكنه عند فتح المثانة وجد أن هناك عقدة في الجزء العلوي للمثانة فقام بأخذ هذا الجزء كعينة وكان حجمها لا يتعدى نصف السنتيمتر وأغلق مكانها في المثانة مع تركيب قسطرة لمدة أسبوع حتى يلتئم الجرح ولم يتم تسجيل العملية لأن القرص الممغنط كان معطلا، أما بالنسبة لنتيجة العينة فإنه للأسف قد ضاعت العينة ولم يتم إرسالها للمختبر للتحليل والضياع بسبب الممرضة المساعدة لأنها لم تعلم أني أريد إرسالها للمختبر، وقد عاد المريض وتم عرضه على استشاري مسالك وعمل أشعة رنين مغناطيسي أظهرت سلامة المثانة وعدم وجود أي أورام، وقد طلبت الهيئة الاستعانة برأي استشاري في هذا المجال وعرضت وقائع الدعوى عليه وردود كلا طرفي الدعوى ومستنداتهما، وقد جاءت خلاصة رأي الاستشاري (إنني أجد أن الجراح يتحمل الإجراء الخاطئ الذي تعامل به مع الورم وتعديه على تخصص آخر غير تخصصه، وما ترتب على ذلك ولا أجد أي أخطاء أخرى يتحملها أحد من الطاقم المعالج) وقد خلص رأي الهيئة الصحية الشرعية في هذه القضية إلى أن الطبيب المعالج صدر منه خطأ مهني في حالة المدعي يتمثل في استئصال جزء من جدار المثانة يبلغ من نصف إلى واحد سنتيمتر وثبت أن المثانة سليمة أصلا ونتج عن هذا الاستئصال ثقب وجرح أسفل البطن علما بأن الجرح لم يصل إلى تجويف البطن، وهذا الخطأ يلزم المدعي عليه بالتعويض المنصوص عليه في المادة (27) من نظام مزاولة المهن الصحية الخاصة، وحيث ترى الهيئة أن ما تعرض له المدعي من خطأ طبي وما ترتب عليه من جروح يعد تعديا على عضو سليم في الجسد وإن لم يخلف عجزا لذا قررت الهيئة استحقاق المدعي لتعويض مادي لقاء التعدي الجسدي الذي تسبب فيه الطبيب المدعى عليه، واستنادا إلى تقدير الإرش وإصابات المدعي من قبل (مقوم الإرش والحكومات) متضمنا تعويض المدعي بمبلغ قدره (36000) ريال حكومة تقديرية ومبلغ عشرة آلاف ريال سعودي لصالح بيت المال كجزاء في الحق العام. وبعد الاطلاع على هذا الحكم نجد أنه لم يتم تعويض المدعي إلا عن الأضرار المادية المباشرة، وقد أغفل الحكم تعويض المدعي عن الأضرار المعنوية والأدبية التي لحقته، وفي الختام نرى أنه تجب سرعة البدء في إنشاء محاكم متخصصة في القضايا الطبية والاستعانة في هذه المحاكم بخريجي قانون وشريعة متخصصين في المجال الطبي، لتفادي التأخير والبيروقراطية في عمل الهيئات الصحية الشرعية، حيث إن تشكيل أعضاء الهيئات الصحية باستثناء الرئيس ليسوا من دارسي القانون أو الشريعة.