مازالت قناعتي تكبر بأن التعلم للعيش الإيجابي المشترك، وقبول الاختلاف والتصالح مع الذات من أحد أهم التحديات التي تواجهنا اليوم، وفي المقابل أجد نوافذ من القناعات تكبر بحرص الإرادة الحكومية والمؤسسية على إنجاح جهود التعايش المجتمعي بجميع مجالاته. فالمراقب مثلا للجهود الكبيرة لمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني يدرك أن بين دفتي فعالياته وملتقياته ودوراته ومبادراته العمق الفكري والتأصيل المؤسسي والتوجه بروح صاعدة بكف التعاون والوعي المجتمعي على تذليل أوجه الصعاب وتحقيق شركات نوعية هادفة. ولكم سعدت بالمشاركة في أوراق الملتقى الذي عقد قبل يومين بالرياض بحضور نخب مجتمعنا السعودي بكل تياراته تحت عنوان «التعايش المجتمعي وأثره في تعزيز اللحمة الوطنية»، وجاءت ورقتي تحت عنوان «التعايش والتعددية في فكر مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي الأسبق» كأحد نماذج التعايش العالمي، مع إيماني بأن نماذج التعايش الوطني في الأحساء ونجران مثلا حققت نجاحات محلية ولها شواهدها الكثيرة، فلماذا الحديث عن التعايش المجتمعي؟ ربما كان مصطلح التعايش الأكثر اتساقا وحضورا، بل ضرورة في ظل أي مناخ تعددي، سواء كان تعايشا بالحد الأدنى ككف الأذى، أو بالمعنى الأعلى كالتسامح والتمحور حول القواسم المشتركة وتعزيزها. ولعل السمة الرئيسة في تعريف كلمة «التعايش» هي علاقتها بكلمة «الآخر» والاعتراف بأن الآخر له حضوره الفاعل والرئيس في التكوين والبناء الوطني في جميع المجالات. ولو تأملنا تاريخنا الإسلامي سنجده يمتلك القوة والمرونة فهو لم يبق جامداً طيلة قرون، بل تعرض لتحولات على مستوى الممارسات التاريخية السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى العقائدية، لذا نجده بقوانينه ومنهجه أول نظام ديني وسياسي وتاريخي يقّر ويحترم «التعدد أو التنوع الثقافي» ويدعو للسلم والتعايش، وهذا ظاهر في ضمان حرية الدين والمعتقد لأتباع الأديان الأخرى، الأمر الذي لم تصله الثورة الفرنسية على ذيوعها في إرساء معالم حقوق المواطنة، إذ إنها لم تعترف بالأقليات الدينية غير المسيحية وحتى بالمذاهب المسيحية غير الكاثوليكية. والمتأمل في وثيقة «الموادعة» يجد أن المهاجرين والأنصار واليهود المتحالفين مع الأنصار أمة واحدة للمؤمنين دينهم ولليهود دينهم، ويمكن للمجتمع أن يستمر على ذلك لولا نكث اليهود، لذا فالتعايش منطق القوي الذي سلكه الأنبياء والحكماء. فالإسلام حقق التوازن الأخلاقي ليوجد مناخا من التعايش لا التناحر، والتعاون لا التنافر، وتأتي ربما التجربة الماليزية والتعايش الوطني مثلا ظاهرا كنموذج إسلامي راق بدأ بعد استقلال ماليزيا عام 1957م. وبدأت نهضته وتبلورت في ظل رئيس الوزراء الماليزي الأسبق مهاتير محمد الذي كان يؤمن بأن مشروع التعايش تحد كبير في ظل الأقطاب الدينية المتعددة، وأن النهضة المجتمعية الدافعة لعجلة التنمية تبدأ بتحقيق الشراكة بين جميع أعراق المجتمع، لذا ظل مهاتير يؤمن: «بأن القرآن الكريم يدعو إلى إقامة مجتمع إسلامي لا إقامة دولة إسلامية، فالمسلمون مأمورون بالتسامح وقبول الآخر، فالعدل هو من يجعل المجتمع إسلاميا». وأعتقد أن هذا التحدي يمكن عبوره إذا تخلصنا من محطات فشل أي مشروع تعايشي، ويأتي في مقدمتها رفض مفهوم الأخوة الإسلامي بشكله العام، والتفسيرات الخاطئة والفهم الخاطئ لروح الإسلام وحرفية الأخذ بنصوص القرآن الكريم، وانكفاء المسلمين على دراسة العلوم الدينية، وعدم مواكبة العلوم العصرية، والتشدد والتطرف في الخطاب الديني عند العلماء، والذاكرة الثقافية والمجتمعية الجامدة. فالحقيقة التي تفرض نفسها اليوم في ظل عصر التقدم والعولمة أن الإرادة السياسية محتاجة ربما لتذليل مسارات التعايش أن تتعامل وفق أبجديات «العلمانية الناعمة» التي تقتضي النظر المعرفي والمدني بعقل فطن في التدبير السياسي تدبيرا علميا بعيدا عن أي سلطة دينية، والتفكير وفق إطار أنه لا وجود من حيث المبدأ لثقافة عدوة أو أمة عدوة، وأن التنوع الثقافي ثروة ينبغي ألا تكون مصدراً للنزاع والتوتر ونبذ الآخر، بل سبيلاً إلى توسيع الأرضية المشتركة ودعم فرص التوافق والتلاقي وتقليل الفوارق وحل النزاعات بالطرق الذكية، عندها نرسم معالم ناضجة لتعايش فاعل.