حين يسافر أحدنا ويمر في شوارع أي دولة سياحية وأسواقها يلحظ ميدانا واسعا وصورا من التنوع الثقافي والفكري في عيون الناس وحديثهم وسلوكهم وهمومهم، وحتى في طرقاتها الضيقة والمحلات الصغيرة التي تبيع الصحف والسجائر وتبيع ربما في المقابل خبرات تولدت بين حطام السنين، فترى مثلا منظف الأحذية حين تمر عليه فعينه لا تقع إلا على مسيرة الأقدام المارة، وتجد بائع الملابس مركزا على هيئة الناس وما يلبسون، والأمر هو عن بائع الساعات وغيرهم، إلا أن الأمر مغاير عند زيارة المكتبات ودور النشر فالنظر منصب نحو المنطق وحسن السؤال، فكل هذه الصور في حقيقتها مشاهد تري الإنسان صورا من أحوال أنماط السلوك البشري الذي يعيشه الإنسان ويحسه، لذا فمكانات الناس وقدرهم وظواهر الأشياء وحقيقتها ربما اختفت ويبقى في العيان المسطور بين سطور الشواهد كلها باختلاف اتجاهاتها وتنوعها تنطق بأن عالم المظاهر غاب وبقيت المكنونات الحقيقية للناس والتي ينطبع على سلوكهم العام، ولعل المتأمل في مكنونات دولتين على سبيل المثال «تركياوماليزيا» يجد جغرافيا أنها تعيش وسط دول كبرى تعيش تنوعا ثقافيا ودينيا واقتصاديا ومع ذلك يجمعها أنها استطاعت خلال عشر سنوات أن تنهض بنفسها واقتصادياتها ومجتمعها بل وتحافظ على هويتها المتسمة بالطابع الإسلامي. ومن يراقب المشهد التركي الحالي وخاصة بعد فوز أردوغان بالانتخابات الأخيرة والذي استطاع خلال سنوات مع وجود التجذر العلماني لمدة تزيد على 60 سنة أن ينجح بذكاء سياسي وقراءة واقعية استشرافية ليصنع منها دولة فرضت احترامها على العالم، وذلك بالمواقف الدولية والإنسانية وأن يكسب الشعبية الكبرى رغم معرفة الجميع بانتماءاته وهويته الدينية التي ولدت في أحضان نجم الدين أربكان، وإني لأذكر زيارته لماليزيا قبل أربع سنوات والتي طلب أن تكون في مقر بحثي وعلمي رائد بكوالالمبور وهو فرع للجامعة الإسلامية العالمية يسمى «إستاك» والتي ألقى بها كلمة رائعة بلغته التركية بدأها بآيات القرآن الكريم يدور فحواها أن هويتنا الدينية واعتزازنا بتاريخنا هو سرّ نهوض الأمم، وأن البحث العلمي ودعم الباحثين وأساتذة الجامعات والعلماء، والجدية في التغيير للأفضل سرّ آخر، معرجا على العلاقات الثنائية بين البلدين والقواسم المشتركة والتبادلات التجارية المميزة، مفاجئا الماليزيين بأن أحد أجداده الأتراك تزوج ماليزية وأن أولاده ما زالوا مرتبطين بماليزيا حبا وتواصلا وعلاقات على كل المستويات، خاتما كلمته بأن الحفاظ على الهوية الإسلامية التي تجمع البلدين في ظل التعددية الثقافية فيها سرّ آخر لتطورها وتميزها، وأذكر قبل اللقاء تعرفت على رجل أعمال تركي يعمل في كوالالمبور وجرى حديث طويل سألته فقلت: هل أنت من مؤيدي أردوغان الإسلامي؟ فقال بالحرف «إن من يدعمني ويكبر جيبي بالمال وينشد العدالة والحرية فأنا معه وأردوغان فرض نفسه على جميع الأطياف التركية بصدقه ونزاهته وتوازنه وإنجازاته التي شهدها العالم اليوم». * وفي المقابل النموذج الماليزي صورة أخرى مشابهة للنموذج التركي الذي بنى نفسه وطورها على سنوات، وما قيادة رئيس الوزراء الأسبق مهاتير محمد صانع ماليزيا إلا شاهد حاضر، والتي ما زالت تعتز وتتمحور حول التمسك بالهوية الإسلامية والتي شواهدها كثيرة ومنها على سبيل المثال أن المؤتمرات العالمية وآخرها المؤتمر الاقتصادي الحالي أنه لا يبدأ إلا بكلمة من رئيس وزرائها أو نائبه وأن تكون مقدمتها الافتتاح بالقرآن الكريم مع حضور المشارك الغربي، ومن يطالع «موسوعة مهاتير محمد»، وكتابه الآخر «طبيب في رئاسة الوزراء» يلحظ أن الرؤية الواضحة والتخطيط وصناعة الهوية هي القوة الحقيقية للتغيير، وأن الإسلام كهوية ثقافية مجتمعية وفكرية ركائز بوجودها يغيب التعصب والإرهاب ورفض الآخر، لذا كانت من أجمل كلماته أنه قال: (إن إدانتنا للآخرين ليست إلا انعكاسا لافتقارنا إلى الاعتدال والتسامح، إذا الإسلام دين عملي لا يفرض بالقوة ويفرض بالتسامح والفهم السليم)، وربما هذا القول الذي يقوله مهاتير هو سرّ نحاج فكرة التعددية والنهضة بماليزيا وحفاظها على هويتها ومكتساباتها. من هنا فالحفاظ على الهوية الدينية والفكرية القائمة على الاعتدال هو التحدي القادم خاصة في ظل العولمة والاستعارات الناعمة التي تفرضها لغة الإعلام الحديث وهي ما يجب التركيز عليه خاصة في المناهج التعليمية والإعلام، وما هو مؤمل أن توثق وزارة التعليم العالي تحديدا نظرتها تجاه هذه الدول المتطورة اقتصاديا وتعليميا.