نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، في الثامن من هذا الشهر، هي حدث استثناني وتاريخي بكل المقاييس. وستحتفظ به ذاكرة الأمريكيين، والسياسيون منهم بشكل خاص، على مر الأيام والعصور. وكانت نتائجه صدمة للسياسيين في أمريكا والعالم بأسره. وأهمية الحدث، ليس في أنه خروج على القوانين الاقتصادية التي حكمت نتائج الانتخابات الرئاسية السابقة، لأكثر من نصف قرن، والتي ربطت تلك الانتخابات بدورة الانكماش والانتعاش، والتي تشير جل حركتها إلى أن مشروع الحزب الديمقراطي في إنعاش الاقتصاد الأمريكي، وفقا لبرنامج الرئيس باراك أوباما لم تكتمل دورته بعد، وأن هناك حاجة إلى دورة رئاسية على الأقل لاستكماله، بما يعني أن الرئيس القادم ينبغي أن يكون من هذا الحزب، لكي تكتمل الدورة الاقتصادية، بل لأن النتيجة جاءت صادمة للمؤسسة السياسية الأمريكية، بكل تفرعاتها، بما في ذلك قادة الحزب الجمهوري أنفسهم. ويكفي في هذا السياق، الإشارة إلى أن مائة وخمسين من كوادر الحزب الجمهوري، قد تنصلوا من تصريحات الرئيس المنتخب دونالد ترامب، وأعلنوا أنهم ينحازون بأصواتهم للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. بل إن نائب الرئيس المنتخب، قد نأى بنفسه عن تصريحات رئيسه، عندما أدلى الأخير بتصريحات اعتبرت مسيئة للمرأة. لقد منحت كل التوقعات والاقتراعات، السيدة كلينتون فرصا للفوز، تصل حد الإطلاق. وكان خروج ترامب، في جملة تصريحاته على المؤسسات الأمريكية، ومهاجمته لها، واصطفاف أجهزة الإعلام، ومؤسسات الدعاية، وهوليود، معظم المؤسسات الفاعلة في الدولة الأمريكية، قد أكد بما لا يقبل الشك، أن فرصته للفوز ضئيلة، أمام أي مرشح رئاسي، فما بالك وهو يواجه خصما عنيدا، متمرسا في العمل السياسي لأكثر من ثلاثين عاما، هي السيدة كلينتون، التي كانت لمدة ثمانية أعوام السيدة الأولى. وقد شغلت منصب وزير الخارجية، في الدورة الأولى للرئيس باراك أوباما، كما شغلت عضوية الكونجرس الأمريكي، لأكثر من دورة انتخابية. ويقف خلفها، الرئيس الأمريكي نفسه وزوجته، وزوجها الرئيس السابق، يدعمونها ويقدمون لها مختلف أشكال المساندة. ومعها تقف شخصيات كبيرة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري. لقد ساد تصور لدى الكثير بأن يوم الحسم الرئاسي سيكون سهلا، ولن يكون طويلا. وحين أدلت السيدة كلينتون بصوتها الانتخابي بدت ممتلئة حيوية وواثقة من النصر. وجاءت نتائج الفرز منذ الوهلة الأولى بما لا تشتهي الرياح. فالتقدم منذ اللحظة الأولى حتى نهاية فرز جميع الأصوات قد صاحب غريمها، ترامب. والنتائج جاءت بالنسبة لها كارثية ومخيبة. لقد كانت فاجعتها كبيرة بالحدث. وعلى غير عادة المرشحين الرئاسيين الآخرين تأخرت السيدة كلينتون في إلقاء خطاب الهزيمة ست ساعات. وهو أمر غير مألوف، فقد اعتاد المرشحون السابقون، الذين خسروا الانتخابات، في الخروج مباشرة إلى جمهورهم وأصدقائهم وفريق عملهم، لتقديم الشكر والعرفان. حدث ذلك مع جون ماكين أثناء منافسته لأوباما، رغم ثقته بالفوز، واعتداده بموقعه السياسي، وبما عرف عنه من تشدد وبدور كبير، ومتميز في حزبه حتى يومنا هذا. لقد خرج هذا السياسي المخضرم، مباشرة قبل اكتمال فرز الأصوات، ليعلن خطاب هزيمته، رافعا رأسه، وواثقا من أنه سيواصل دوره السياسي، في مواقع أخرى، في حزبه وفي الكونجرس، وبقية مؤسسات الدولة، أينما تمكن من التواجد. ترامب أول رئيس أمريكي يخرج عن بيت الطاعة، ويأتي من خارج المؤسسات سيكون ترامب، أول رئيس أمريكي يخرج عن بيت الطاعة، ويأتي من خارج المؤسسات. وهو وضع لم يكن من المسموح به تاريخيا بالولايات المتحدة. لقد سجل لنا التاريخ الأمريكي المعاصر، حالات معدودة، خرج فيها الرئيس الأمريكي، عن المؤسسات، واستمد حضوره من الجمهور، لكنها انتهت بفواجع وكوارث. وحده الرئيس الأمريكي، روزفلت خرج منها سالما، بسبب احتدام الحرب العالمية الثانية، ودوره الكاريزمي فيها، وانتقل إلى العالم الآخر، وهو لما يزل رئيسا. وهو الرئيس الوحيد، في التاريخ المعاصر، الذي حظي بالانتخاب في دورات رئاسية ثلاث. أما الرئيس الثاني، فكان جون كنيدي، الذي تحول إلى زعيم شعبي، التف حول قيادته جمهور الشباب، وباتت كلماته، شعارات وأغاني وأهازيج يطربون لها. وقد توفي صريعا، بعد حادثة اغتيال أودت به في مدينة تكساس. ولم يعرف بعد، حتى هذه اللحظة، من يقف خلف مصرعه، لكن كل الشائعات تشير إلى أن هذا الحادث، هو من صنع المؤسسة الأمريكية، التي تجاوز الرئيس دورها وصلاحياتها. أما الرئيس ريتشارد نيكسون، وقد عرف بتجاوزه للخطوط الحمر الأمريكية، فيما يتعلق بالعلاقة مع الصين الشعبية، والعمل الحثيث من أجل انهاء الحرب في الهندالصينية، فانتهى بفضيحة ووتر جيت سيئة الذكر. ومثل ذلك حدث للمرشح الديمقراطي، جاري هارت القادم من ولاية كلورادو، والذي اتسمت تصريحاته بالحدة تجاه المؤسسة الأمريكية، معلنا في كثير من الحالات استقلاليته عنها. وانتهت حياته السياسية بفضيحة جنسية مع الآنسة دونا رايس. هل سوف يقوم الرئيس المنتخب ترامب، بترميم علاقته بالحزبين الرئيسيين، وبقية الجهات الفاعلة في صنع القرار الأمريكي. ذلك أمر ملح، إن لم يتعلم من دروس أسلافه، فليس أمامه سوى الطوفان. وعليه أيضا، طمأنة دول العالم، وبشكل خاص زعماء أوروبا، بأن وصوله لسدة الرئاسة، لن يؤدي إلى إلحاق الضرر بعلاقة أمريكا التاريخية والاستراتيجية بها. ولن يكون مفيدا كثيرا بالنسبة له حصول الجمهوريين على غالبية المقاعد بالكونجرس الأمريكي، ما لم يتم هذا الترميم، داخليا وخارجيا.. ويبقى الموضوع بحاجة إلى المزيد من المتابعة والتحليل.