انثالت رائعة أمير الشعراء أحمد شوقي عن نهر النيل: من أي عهد في القرى تتدفقُ وبأي كف في المدائن تغدِق والمركب النيلي يتهادى بين أمواج النيل براكبيه من أحد المرافئ الشاسعة الممتدة على طول الساحل النيلي في العاصمة السودانية (الخرطوم) الى آخر المنطقة المسموح بها للجولات السياحية التي تنتهي برؤية السكن الشخصي لنائب رئيس الجمهورية المطل على النيل، ورذاذ الماء يداعب ركاب الزورق المختلطة بالأغاني والأهازيج العربية والسودانية.. إذن السودان. السودان قارة عربية بامتياز لم يتم اكتشافها، ولا أبالغ إن قلت: أنه لم يُكتشف منها شيء بعد.. أي لم تُكتشف على المستوى الجغرافي الذي نعرف انه (قبل اقتطاع الجنوب منه) كان أحد أكبر الأقطار العربية الثلاثة مساحة، وهي المملكة والسودان والجزائر، هكذا تعلمنا في المرحلة المتوسطة، ولم تُكتشف على المستوى التاريخي الضارب في عمق الزمن، والممتد إلى أكثر من عشرة آلاف سنة، ولا على المستوى الفني العريق والمنوع، وهي ايضا ما زالت عذراء على المستوى الاجتماعي والإثني والعرقي والعقدي وغير ذلك. السودان بلد عربي شديد التمسك بقوميته، ولصيق بلغته العربية ومعتد كثيرا بانتمائه الاسلامي، ولعل البعض سيقول: أن لا جديد في هذا المقال، فهو يقدم مادة إنشائية معروفة عن السودان.. نعم، صحيح ذلك حينما نكون مثل القائل بعيدين، نعتمد على السمع والخبر.. ولكن ليس من سمِع كمن رأى، والخيال خلاف العيان. فالسودان في الذاكرة البعيدة، وفي وجدان المواطن العربي هي ذلك البلد الطيب أهله، الظرفاء ناسه، السمر سواعدهم.. لا يُعرف عنه سوى أن عاصمته الخرطوم.. وهي ملتقى النيلين الأزرق على الأبيض (مع أن كليهما أزرق ليلا، وأبيض نهارا)، وسبحان الخالق.. وفي الذاكرة عن السودان غيابيا قصيدة (أغدا ألقاك) للشاعر السوداني الراحل (الهادي ادم، 2006 - 1927م) التي غنتها أم كلثوم، وجعلت منها إحدى العلامات المهمة والبارزة في وصول السودان للذاكرة العربية المعاصرة، حتى غطت هذه القصيدة على سواها من قصائد الشاعر المذكور، إلى درجة وصلت إلى ندم الشاعر على كتابتها وغنائها بسبب توقف الذاكرة العربية عندها وعدم معرفة الناس واطلاعهم على باقي نتاج الشاعر التي بلغت دواوينه الثمانية، وتتضمن قصائد أجمل وأنضج وأروع من كلثوميته، وذلك بحسب ما صرح به أكثر من مرة في لقاءات عديدة قبل رحيله، وكان عنوان القصيدة قبل أن تغنيها كوكب الشرق (الغد)، وقد تم اختيارها من ديوان (كوخ الأشواق). بل إنها غطت حتى على سائر الشعراء السودانيين الآخرين، فلا نكاد نعرف منهم إلا هذا الشاعر.. وتنصرف الذاكرة العربية في السودان إلى مطربها الشعبي الراحل (سيد خليفة) في أغنيتيه الشهيرتين: (إزايكم، كيفنكم) و(البامبو السوداني)، وربما قد سمع البعض عن المطربة السودانية الشابة (جواهر) التي تقيم في القاهرة، وهذا كله قبل أن تحضر بعض الاسماء البارزة في العلوم والشعر والنثر..كالبروفيسور والعالِم الراحل عبد الله الطيب، والشاعر السوداني/الليبي الراحل محمد الفيتوري، والقاص والروائي الشهير الاستاذ الطيب صالح، رحمهم الله، ثم جاءت من بعدهم بعض الاسماء المعروفة كالشاعرة روضة الحاج وغيرها.. كما تحفظ الذاكرة العربية عن السودان تلك السمة الجميلة التي التصقت بكل فرد سوداني بمجرد ذكره، وهي الطيبة النابعة عن محبة وصدق ومعاملة حسنة.. يعني الطيبة بصورها الإيجابية لا بصورها الأخرى.. ولعل المتابعين لمجلة العربي الكويتية يتذكرون الاستطلاع عن مدينة الصناعة والحديد والعيون الواسعة.. (عطبرة) في السبعينيات الماضية.. يعني حتى الآن تم تكوين مادة جيدة تقبع في الذاكرة والمُخيلة عن الجمهورية السودانية الشقيقة.. ولكن السودان.. عيانا هي أكثر حضورا وجمالا، وثراء، وعمقا، وثقافة، وطيبا، وعروبة، واعتزازا ومودة وو و.. الخ. ولكن المؤلم أن هذا البلد العربي المترامي الأطراف مساحة والشاسع برورا، والوفير من جمال.. لم تتركه براثن السياسة والقوى الكبرى والمصالح المتضاربة (براهُو) أي في حاله، فأبوا إلا أن يلثموا من كيانه الكبير قطعة سموها (جمهورية جنوب السودان) وهي التي بها الكثير من الخيرات والمناجم الغزيرة.. ووضعوا الأسباب والمسببات لذلك.. ولن ندخل في التفاصيل.. إلى هنا نكتفي بالحلقة الاولى من المقال.. وسنعرض إن شاء الله في الحلقة القادمة والأخيرة جوانب أخرى كثيرة رأيناها رأي العين وسمع الأذن، ولمس الشعور، وعشناها في هذا البلد العربي العزيز.