على مدى 30 عاما، بقيت عبارة «مصانع العرق» تعني الشركات المصنعة للملابس التي تشغل العمالة الرخيصة وهي تذكرنا بصورة محددة خاصة بها. ترتبط هذه الصورة بأذهاننا بالعاملين والعاملات الآسيويات، الذين يصنعون الملابس لزبائن يوجدون فيما وراء البحار، وحيث تحمل هذه الملابس علامات تجارية مشهورة في مصانع مزدحمة وغير آمنة. وقد كانت هذه الصورة النمطية من القوة بحيث دفعت بالكثيرين إلى شن حملات للدفاع عن حقوق الإنسان، كما غيرت من طريقة الشركات الكبرى في الحصول على منتجاتها وأثرت (غالباً بشكل غير صحيح) على الكيفية التي يتمكن فيها السياسيون في الدول الغنية من تشكيل سياساتهم التجارية. أما الآن فقد بدأت هذه الصورة تتلاشى وتصبح جزءًا من التاريخ. فعلى الأقل في آسيا بدأت العوامل التي جعلت من الصناعات المشغلة للعمالة الرخيصة جزءًا دائماً من عملية التصنيع، تفسح المجال للتكنولوجيا. فقد أظهر تقرير أصدرته مؤخراً منظمة العمل الدولية أن أكثر من ثلثي الوظائف، التي يبلغ عددها 9.2 مليون وظيفة في صناعة النسيج والأحذية في جنوب شرق آسيا، أصبحت مهددة من عملية مكننة الصناعة - منها 88 بالمائة من الموجودة في كمبوديا، و86 بالمائة في فيتنام و64 بالمائة في إندونيسيا. أما إذا كان ذلك جيداً للعاملين في هذا القطاع أم لا، فهو موضوع قابل للنقاش. ولكن هناك شيئاً واحداً مؤكداً، وهو أن أيام ازدهار المصانع الآسيوية النسيجية المشغلة للعمالة الرخيصة بدأت تدخل عالم النسيان. لا يوجد مكان أفضل من كمبوديا كمثال واضح على ذلك التغيير. من المعلوم أنه منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، لجأ المصنعون إلى العمل في بلدان أخرى بعيدة عنها، للاستفادة من الأجور المنخفضة والأنظمة المتساهلة والعدد الكبير من السكان المقيمين في المناطق الريفية، من الراغبين في الحصول على وظائف مدرة للأجور في المدن. كانت النتيجة حدوث ازدهار في البلاد، إذ بحلول عام 2015 أصبحت صادرات النسيج والأحذية تشكل صناعة بقيمة 6.3 مليار دولار. وهي تشكل الآن نسبة 80 بالمائة تقريباً من عائدات الصادرات في كمبوديا. وفي أفضل الأحوال، تعتبر صناعات النسيج والأحذية من الصناعات الرتيبة والمثيرة للملل وغير المريحة (كما كانت الحال منذ العصر الفيكتوري). وفي أسوأ الأحوال يمكن اعتبارها مذلة وتعرض حياة العاملين فيها للخطر. ومع ذلك لاقى العاملون الكمبوديون في صناعة النسيج والأحذية، الذين بلغ عددهم 630 ألف شخص، نجاحاً في عملهم. فقد ارتفعت أجورهم بين عامي 2014 و2015 من 145 دولاراً إلى 175 دولاراً في الشهر، في بلد يبلغ فيه معدل الدخل السنوي حوالي 1000 دولار في السنة. وقد كرر هذا الاتجاه نفسه عبر آسيا، خاصة في مراكز صناعة الملابس العظمى في الصينوفيتنام. وهنا بدأت الأمور تصبح مؤلمة وصعبة. فقد عملت المنافسة المتزايدة بين اقتصادات الأجور المنخفضة على تخفيض أسعار الملابس في أنحاء العالم. كمثال على ذلك، انخفض معدل كلفة الملابس المصدرة من كمبوديا إلى الولاياتالمتحدة بين العامين 2006 و2015 بنسبة 24 بالمائة. وبالنسبة للشركة الصانعة، إذا بقيت الأجور ثابتة في أوقات تتزايد فيها الأجور فإن هذا يصبح أمراً يصعب ابتلاعه. ولذلك أصبح هذا يهدد بحدوث أزمة. ورداً على ذلك، لجأت بعض المصانع ببساطة إلى إغلاق مشاغلها. وانتقل بعض المنتجين الصينيين إلى جنوب شرق آسيا، على أمل استمرار الأجور المنخفضة. ولكنها لم تنخفض. وقد أبقى ذلك على خيارين لا ثالث لهما أمام المنتجين، أولهما التفاوض للحصول على أسعار أفضل من أصحاب العلامات التجارية من أمثال نايكي وإتش آند إم وشركات أخرى تسند أعمالها لشركات خارجية في آسيا (هذا غير مرجح). أما الثاني فهو زيادة الانتاجية. ومع وجود القليل من الامكانات المتوافرة أمام العلامات التجارية، اختار مصنعو الملابس الآسيويين الخيار الثاني - وهو اللجوء إلى حد كبير إلى الاستثمار في المكننة، وهي القوة الموصلة إلى الحد الأقصى من الانتاجية. ومن الأمثلة على التكنولوجيا الجديدة التي بدأوا في استخدامها، وهي على الأرجح الأكثر شيوعاً، هي الماكينات التي تُمكنن العمليات البطيئة والمملة مثل قص الأقمشة، وهي المهمة الأساسية في كل صناعات الملابس. والزمن اللازم المقدر للوصول إلى النقطة التي يتساوى فيها الربح مع الكلفة -وهو 18 شهراً- في مثل هذه التكنولوجيا، يؤكد إلى حد كبير أن أيام العاملين في قص الأقمشة باليد، من ذوي الأجور المنخفضة، بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً. فمثلاً تريد شركة أديداس في إندونيسيا التقليل من العمالة اليدوية اللازمة لعملية القص لتصل إلى نسبة 30 بالمائة. كما ألغت شركة هونج واه لصناعة الملابس في كمبوديا عملية القص اليدوي بشكل كامل. وهذا فقط هو البداية. فمثلاً ستسمح الطباعة ثلاثية الأبعاد وتكنولوجيات ناشئة أخرى للمصنعين بالوفاء بالمواصفات المرغوبة من الزبائن بنوعية غير مسبوقة وبسرعات لم يسبق لأحد أن تخيلها في المنشآت المرهقة وبأقل عدد ممكن من العمالة البشرية. وحتى الأسوأ من ذلك، على الأقل بالنسبة للعاملين في آسيا، هو قدرة الشركات الغربية على إحضار نفس هذه التكنولوجيات، القادرة على التفصيل حسب ذوق زبائنها، إلى بلادها، وإلغاء جميع مصانعها الموجودة في الخارج. ولكن الخبر السار هو أن الطبقة العاملة الصاعدة في المصانع الآسيوية بدأت تصبح بنفسها مستهلكة، خاصة في الصين، ومن المتوقع أن تزداد لديها القدرة على الإنفاق على الأحذية والملابس في السنوات المقبلة. لكن المشكلة هي أنه لا توجد طريقة واضحة لامتصاص العمال الأقل حظا الذين سيخسرون وظائفهم لصالح الآلات. ولا يوجد سبب للتحسر على ذهاب مصانع العرق. وإنما هناك فعلا سبب للشعور بالقلق من أنه لا يزال على آسيا أن تعثر على بديل جيد لها.