قال لي إن كان لديك بعض عقل وأردت أن تمسك بخناق نفسك، دون أن تشعر كيف حصل هذا، استمع لمحلل سياسي عربي، يحلل قضية سياسية ساخنة، وكيف يضعك في دوامة لا تعرف كيف السبيل للخروج منها، لأنه يخلط كل شيء ويقدمه لك على أنه تحليل سياسي، وأنت في النهاية عليك أن تقبل بهذه الخلطة العجيبة من المتناقضات، التي لا أظن أن دارسي العلوم السياسية في جامعات العالم قد سمعوا بها، ولو من باب معرفة الشيء دون الاعتقاد به، وهذا المحلل النحرير لا يهمه من يستمع إليه، بقدر ما يهم أن يشعرك بأنه يعرف من الأمور خباياها، وبالتالي تشعر أمامه بمدى جهلك، وموسوعية ثقافته، التي لا تعرف كيف وصل إليها رغم قصر عمره. وهذا «الخلط السياسي» الذي قد يكون ما وراء علم السياسية أي بمعنى أن هذا الخلط كثيرا ما تضعه العلوم السياسية وراءها، حينما تتوصل إلى حل سياسي، أي كيف يمكن أن يميز المحلل السياسي بين المعطى الذي يمكن أن يساعد في الحل السياسي من نقيضه الذي يجعله يدور في حلقة مفرغة، فكم المعلومات والمعرفة ليس غاية في ذاتها، بقدر ما قد يكون بعضها وسيلة لغاية سياسية اسمها الحل. وهنا ليسمح لي حضرة المحلل المحترم، أن أذكره أن من معاني مفردة «محلل» في اللغة العربية «هو المتخصص في التحليل وهو رد الشيء إلى عناصره، وهو اسم فاعل من حلل» وأظنها كذلك أنها جاءت من الحل، أي الشخص الذي يوجد الحلول. وهنا ليس فقط مربط الفرس بل عقدة العقدة التي يجب أن يعمل على فكها المحلل السياسي، ليصل بعد ذلك إلى صياغة الحل، وهذا فيما أظن هو جوهر عمل المحلل السياسي، فليس وظيفته فقط أن يعطيني قاطرة من المعلومات والمعطيات السياسية، دون أن يرشدني إلى الحل السياسي الواقعي في نهاية عرضه لهذه المعطيات، فالمعلومة لوحدها قد يتساوى بها المحلل السياسي من غيره، بل إن الكثير من أجهزة الاستخبارات تملك من المعلومات أضعاف ما يملكه الكثير من المحللين السياسيين، ومع هذا لم نعرف أنها قدمت حلا سياسيا، فالحل السياسي له خبراؤه الذين يميزون الفلسفة السياسية عن غيرها من الفلسفات الأخرى، وهنا أذكر رواية ذكرها الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في مذكراته، أراها نموذجا لكيفية القراءة السياسية قد يستفيد منها البعض من محللي السياسة العرب، وذلك حينما استدعى الأستاذ الجامعي في العلوم السياسية حينها هنري كيسنجر وعرض عليه حقيبة وزارة الخارجية، طالبا منه أن يصوغ حلا سياسيا لبناء علاقة مع جمهورية الصين الشعبية، إذ لم تكن بين البلدين أي علاقة دبلوماسية حينها، حيث كان العداء سيد الموقف، فهل كانت تنقص الرئيس الأمريكي المعلومات عن دولة بحجم الصين لهذا استدعى كيسنجر؟ لا طبعا، بل معلوماته عن الصين تتجاوز معلومات كيسنجر حينها، فتحت تصرفه أجهزة استخبارات ومراكز معلومات تمده بالتقارير اليومية، ولهذا لم يقل له كيسنجر كخبير سياسي أولا قبل أن يكون وزير خارجية، هذه الديباجة ان الصين دولة شيوعية وهناك عداء استراتيجي تاريخي بين الشيوعية والرأسمالية التي تمثلها أمريكا، «وهلم جرا» من المعلومات التي يعرف نيكسون أضعافها، بل قدم تحليلا سياسيا أي كيف تتجاوز أمريكا حالة العداء هذه، إلى علاقة سياسية تقدم فيها مصالح البلدين قبل أي خلاف أيدلوجي آخر، وبالتالي كانت ثمرة الحل السياسي هذا هو عودة العلاقة مع الصين، إلى درجة أن ساند نيكسون انضمام الصين إلى هيئة الأممالمتحدة. لا يفهم من إعطائي هذا المثال، أن أحمل المحلل السياسي ما لا يحتمل، و أن عليه حل أي مشكلة سياسية تمر عليه، فهذا ليس بمقدور أي محلل سياسي فعله، دون أن تكون هناك رغبة سياسية من الأطراف المتصارعة، ولكني أريده دائما ميالا في طرحه لوضع الحلول السياسية، لا كما يفعل اليوم الكثير من المحللين السياسيين حينما يزيدون الطين بلة.