الفارق كبير وواضح وفادح بين خطاب إعلامي أُعد للإخبار والإفهام وبين ثرثرة تأسست على الهجاء والشعوذة، فالأول موجه لذوي العقول والضمائر، حيث الفكرة والمعلومة والرأي والموقف والتحليل. أما الثاني بكل ما يتضمنه من تأجيج وتحريض ومغالطات فهو منذور للغوغاء، وللأسف يبدو أن المعادلة الإعلامية العربية تسير بشكل مدروس ومبرمج نحو الابتذال. لأسباب متشابكة تتداخل فيها رداءة الإعلام، وطبيعة المواجهة الحاصلة على المستوى السياسي بين الفرقاء، بالإضافة إلى الظروف الموضوعية التي يتحرك فيها وبموجبها الإعلام. حيث تشكل البنية الإعلامية اليوم مستنقعا للاسترزاق والنفعية والاستقطاب السياسي، لذلك يمتنع الإعلامي عن اعتناق الحقيقة ليتبنى مهمة قتلها بدم بارد. يحدث هذا التردي في كل حقول الإعلام السياسي والفني والاجتماعي، لأن الظرف الموضوعي المفتعل يُراد له أن يكون عازلا طبيعيا ما بين الإعلام بما هو سلطة وممكنات تشييد المجتمع المدني. وعليه تتولد متوالية من الاستعراضات التي تتشبه بالدور الإعلامي وهي ليست منه كالإثارة ونجومية الإعلامي والانتصار للجماعة أو الفئة بحجة الدفاع عن الحقيقة، إلى آخر تلك الانتهاكات الصارخة لميثاق الشرف الإعلامي، حيث استمرأ الإعلامي العربي إقامته داخل غرائزه، ولم يعد مهتما إلا بكيفية تدبير العروض الكلامية، الخالية من التحليل والموضوعية، المفتقرة إلى المعنى، المعدة أصلا لتأزيم المشهد الحياتي بوابل من الأكاذيب المدروسة والمبرمجة. كما يخرج الخبر من مختبر يعرف مبتدأه ومنتهاه، كذلك الإعلامي هو نتاج هذا المختبر، وفي ظل انحسار أثر الأدبي والثقافي يطل الإعلامي الذي يراهن بشهرته ونجوميته ليحتل منصات التأثير والتوجيه. وذلك من منطلق التبسيط الذي يخفي وراءه متوالية من المفاهيم المعدة للتوطين في وجدان ووعي المتلقي، ومن خلال الطرق على موضوعات وقضايا وإشكالات ومواقف يُراد لها أن تكون حديث الناس واللحظة، وأن تكون معيار الوعي المعاصر بالعالم، حيث يتفنن الإعلام في تسليط الضوء عليها عبر الحوارات والتقارير والأخبار. ومن خلال توظيف منظومة من الأسماء الجاهزة للحديث عن أي شيء، بلغة الخبراء، وبدون أي خبرة أو دراية ضمن عروض كلامية متواطئ عليها. الاعلامي الذي كان يُنظر إليه كباحث عن الحقيقة لم يعد كذلك. بل تحول إلى عضو داخل مؤسسة كبرى تنمسح فيها الخطوط الفاصلة ما بين السياسي والاعلامي، فهو جزء من منظومة تربي المؤثرين وتوظفهم في مهمات تخليق أوهام تخدم مصالحها. خصوصا أن الاعلامي اليوم يبدو أقل التزاما بالأفكار والمعتقدات والمواقف والمبادىء وأكثر اقترابا من معادلة المصالح المشتركة. فهو كائن حاجياتي، تهمه في المقام الأول مصالحه ونجوميته، ومكانته، وصورته المصقولة في الإعلام، وهذا هو ما يبرر سهولة استخدامه والتعامل معه كأداة طيعة وقابلة للتوجيه بأي اتجاه. كما يفسر ذلك أيضا تراجع دور الاعلامي المثقف وتضاؤل دور من تبقى من أولئك، حيث تم تفريغ المشهد للبارعين في تحريك الغرائز والرقص في الهوامش. هناك فصيل من الإعلاميين بلغ من الشراهة للمال والأضواء ما يثير السخرية والشفقة، فهو حاضر على الفضائيات وعلى صفحات الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعي بكثافة محيرة، وكأنه يستعرض نفسه أمام القراء والمشاهدين بلا تعب ولا هوادة، وفيما يرمي بتعليقاته السطحية على كل الأحداث، ينسى أنه بحاجة إلى قراءة كتاب أو الركون إلى فكرة. اعتقادا منه أن الأمر لا يحتاج إلا إلى اتقان اللعبة الكلامية، لدرجة أنه يقدم نفسه في مواقع التواصل الاجتماعي كإعلامي مستقل وفي القنوات الرسمية كموظف، وهو يعي تماما، ويعرف أن المتلقي أذكى من أن تمر عليه هذه الحيلة، فالمؤسسة التي يعمل فيها تعاقدت معه على ميثاق فاوستي لا يستطيع الحياد عنه، ولا التخفف من مستوجباته. لا يُتوقع من إعلامي بهذه الصورة الكاريكاتورية أن يقدم أي خطاب إقناعي منضبط الأفكار والإيقاع، ولا أن يطرح مادة صالحة للعقول. لأنه يراهن على تأجيج النعرات وتحريك الغرائز. وهذا هو ما يسهل مهمته، فهو إذ يصنع صورته كنجم جماهيري يؤسس في المقابل لمكانة نجم سياسي وفني واجتماعي، حيث لا يمكنه الصعود إلا بموجب اتفاق على تصعيد الممولين له، وهنا يكمن سر الولاء الأعمى الذي يتبدى على شكل مواقف أيدلوجية، تضعه في خانة المدافع عن الخطأ، المستعد على الدوام لتبرير خطايا ذوي المصالح، المتبني لوجهة نظر مفاعيل السلطة، المنفصل عن هموم وهواجس الناس، حيث يدخل نادي أصحاب الامتيازات من ذلك الباب الواسع ويغلقه على نفسه مع أصحاب المصالح. يعتقد هذا الاعلامي أن لعبته يمكن أن تستمر بهذه الوتيرة، وأنه قد تمكن بالفعل من خداع الناس بعد أن خدع نفسه بل باعها. وأن المسافة الاجتماعية بينه وبين ناسه غير موجودة. فهو بينهم، ويتحدث باسمهم، وتحت عنوان البحث عن الحقيقة، إلا أن هذا الوهم لا يصمد أمام لحظات الاستحقاق، حيث تكشف المنعطفات عن صورته الحقيقية بمجرد أن يواجه جمهوره، لأنه بسلوكه النفعي الانتهازي، لا يمثل إلا شريحة صغيرة جدا، وأنه بعد كل تلك العروض الكلامية المزيفة يتحول إلى مسخ مثير للضجر، حيث تنشرخ الصورة المثالية التي حبس نفسه في أطرها الهشة، ولا تعود لغته الهجائية القائمة على التهويل وإثارة غرائز ذات معنى، لأنه خان ميثاق الإعلام والإخبار والإفهام والإقناع.