كان وصول باراك أوباما في 20 أيلول 2009 للمرة الأولى إلى البيت الأبيض استثناء في الديمقراطية الأمريكية، وهو الاستثناء الذي يبدو أنه سيسمح للسيدة هيلاري كلينتون بذات الفرصة، لكي تكون أول امرأة تحكم الولاياتالمتحدة، بعد أن حكمها أوباما بشكل يعيد الجدل عن الاستثناء والفرصة التي تمنحها الديمقراطية لرموزها ومن خلال شعاراتهم وبرامجهم وإرثهم. فحين جاء أوباما للانتخابات طرح شعار«من أجل مجتمع أمريكي أكثر عدلا»، وكان هذا الشعار يحاكي ظروف المرحلة والتاريخ المديد لمطالبة السود بحقوقهم في مجتمع كان يبادلهم الازدراء، وهي شعارات لم تخلُ من مواجهات حادة بين المرشحين على موقع الرئاسة. فإذا كان اوباما سعى إلى خوض معترك الانتخابات الرئاسية الأمريكية بشعار العدالة، في مسعى لمواجهة الخصم الجمهوري المليونير الرأسمالي ميت رومني والمحتمل آنذاك، إلا أنه كان يعكس من ناحية أخرى رؤيته الشعبوية من اجل قيام مجتمع امريكي أكثر عدلا في وقت بدا فيه أن تحقيق «الحلم الامريكي» أصبح أكثر صعوبة بعد ثلاثة عقود من انعدام المساواة المتزايد، كما كان يقول الخبراء يومها، وكانت تعكسه وقائع الأزمة المالية العالمية التي نجح أوباما بانقاذ أمريكا من تداعياتها. غير أن وقائع الصراع اليوم مختلفة، في ظل الصدع الكبير بين مرشحي الرئاسة الأمريكية هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، فالشعار الذي تطرحه هيلاري كلينتون المتمثل في حرف «H» اللاتيني باللون الأزرق ومنذ قدمته للجمهور اصبح مادة للسخرية، بعد وقت وجيز على إعلانها الترشح للفوز بتسمية الحزب الديمقراطي لها في منافسات الانتخابات الرئاسية. بيد أن الفارق كبير بين إرث باراك حسين أوباما ورمزيته كرئيس خلفيته مسلمة ومن السود، وجاء من عالم التدريس الجامعي ودراسة الحقوق ورئاسة تحرير اهم مجلات القانون وهي مجلة جامعة هارفارد للحقوق، ودونالد ترامب القادم من عالم الرأسمال والشركات والفنادق وحقول النفط، وهو مجال اقتصادي يتيح للزائر صفحته وموقعه على الشبكة العنكبويتة وقتا طويلا ليرى تنوع اعمال الرجل القادم للمستقبل، وليعيد أمريكا وينقيها من المهاجرين الذين يمثلون خطرا عليها كما يقول وعلى رأسهم المسلمون. نعم كان فوز باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية الامريكية استنثاء وفرصة، ولا شك في أنه كان بالنسبة للسود الامريكيين والى كثيرين من البيض المؤمنين بالمساواة بمثابة تلك الانحناءة في اتجاه العدالة التي قال بها ابراهام لينكولن حين إصدار إعلان تحرير العبيد عام 1863. فالسود لم يصدِقوا بمن فيهم أشد المؤمنين بحركة الحقوق المدنية ممن عاشوا انطلاقتها في الخمسينيات والستينيات، لم يصدقوا أن يبلغ اوباما مقعد الرئاسة، وبعد إعلان النتائج وعندما ألقى أوباما خطاب الفوز لأول مرة عام 2009. كانوا يبكون كما لم يبكوا من قبل ويقفزون غير مصدقين أنهم مواطنون عاديون ومسؤولون سود يقودون اعظم دول العالم ممن امتهنت كرامة السود ومازالت في لحظات ما تعيد الكرة وتمتهن حقوق دول وشعوب كاملة وتبيدها وتدمرها كما حدث في العراق ولكن ليس لذات السبب. وها هو اوباما يذكر العالم بأنه انتشل أمريكا من أزمة مالية طاحنة وقلل خسائرها ورتب البيت الداخلي واعاد الجنود من الجبهات الطويلة، لكن مظاهر التمييز مازالت ماثلة ضد السود حتى شهدت الولاياتالمتحدة أكثر من حادثة قتل وتمييز ضد السود وتصاعدت إلى مستوى الشغب الجماعي في بعض الولايات وكأن صوت داعية الحقوق السياسية والمدنية للسود مارتن لوثر كينغ مازال حاضرا كلما أراد ان يضخ الأمل في قلوب السود ويؤكد للبيض أن المساواة العرقية لابد آتية فيردد: «إن قوس التاريخ طويل لكنه ينحني تجاه العدالة». صحيح أن لينكولن قاد سياسات ممنهجة ضد التمييز ونحو العدالة بيد أن النهاية السعيدة لأوباما التي قد تعيده استاذا جامعيا أو ملقيا المحاضرات لم تمنح لابراهام لينكولن، فهذا الأخير ورغم انجازه في انهاء العبودية وتحقيق المساواة وتوحيد البلاد، إلا أنه صار هو نفسه الفصل الأخير من الحرب الأميركية التي يوقد نارها دونالد ترامب بشعاراته ومقولاته الفضة والعنصرية. ففي 14 نيسان 1865 (يوم الجمعة العظيمة) ولدى حضور لينكولن مسرحية كوميدية في مسرح فورد بواشنطن، دخل رجل مقصورته واطلق عليه رصاصة استقرت في رأسه وقتلته بعد ساعات ليعبر بذلك الفعل عن رفضه لما طالب به الرجل الذي حمل أمريكا تحو حلم العدالة والمساواة الذي جاء بأوباما رئيسا عام 2009. منذ عام 1828 اتخذ المرشح الديمقراطي أندرو جاكسون الحمار شعارا لخوض سباق الرئاسة آنذاك وبشعار «لنترك الشعب يحكم»، ويومها سخر منافسه الجمهوري كثيرا من هذا الشعار ووصفه بأنه شعبوي ورخيص، فما كان من جاكسون إلا أن يختار حمارا رمادي اللون جميل المظهر وألصق على ظهره شعار حملته الانتخابية وقاده وسط القرى والمدن المجاورة للدعاية لبرنامجه الانتخابي «الشعبوي» ضد منافسه الذي كان يظهر على أنه نخبوي وليس قريبا من هموم الناس. كما ظهر الفيل كشعار للحزب الجمهوري لأول مرة في دعاية سياسية مساندة للينكولن في تلك الانتخابات التي جرت عام 1860، لكنه لم يتحول إلى شعار سياسي للجمهوريين إلا عام 1870 عندما قام رسام الكاريكاتور الأمريكي الشهير توماس ناست بالتعبير عن تذمره مما وصفه بخروج الحزب الجمهوري عن قيمه الليبرالية واختصر الحزب في رسم كاريكاتوري لفيل ضخم مذعور يحطم كل ما تطؤه قدماه وكتب على جسمه عبارة (الصوت الجمهوري) ومنذ ذلك الحين تحول الفيل إلى شعار للحزب الجمهوري. اليوم تعود معركة الشعارات بمضامين مختلفة بين قطبي الصراع في الانتخابات الامريكية، ترامب - وكلينتون، وكل واحد له إرث يبغي الحفاظ عليه، ورؤية يريد تسويقها، كلينتون بخطابها الديمقراطي وعملها الخيري والصحي ودعوتها لاعتماد مبدأ القوة الذكية كخطة لتأكيد قيادة الولاياتالمتحدة وقيمها عن طريق الجمع بين القوى العسكرية والدبلوماسية، والقدرات الأمريكية فيما يخص الاقتصاد، والتكنولوجيا، بالاضافة لدعم المرأة ومبادرات التعليم، وهناك في المقابل مقولات ترامب المثيرة للجدل فيما يتعلق بالمهاجرين والسياسات المالية، مع يطارده من فضائح مالية وعلاقات مع روسيا. لكن الثابت ان الحلم الأمريكي لم يعد يتحدث عنه أي من المرشحين، مع أن الفارق بين كلينتون وترامب كبير، فكلينتون كرست جهودها لدعم المرأة والحفاظ على الكنوز الأثرية واثراء البيت الأبيض بقطع نفيسة وبمبادراتها لدعم التعليم وبناء المستقبل في برنامج الألفية، وترامب قادم من عالم العقار وبناء الكازينوهات والفنادق، وفي هذا الفارق ما يجعل أمريكا قد ترفض عقلية المقاول في الحكم وتستعد لاستقبال استثناء ديمقراطي جديد ولو كان شعاره الحزبي حمار رمادي.