هل يبدو هذا العنوان شاعريا؟ لِيكنْ.. فما أحوج العالم إلى الشاعرية في هذا العصر الموبوء بالفظاظة والعنف. أما الأريج الذي يشير إليه هذا العنوان فهو أريج الكلمات والأفكار وتجليات الفن المبشرة بالقيم الإنسانية المشتركة. قِيَمٌ كونية تسافر مثل أسراب طيور لا تعيق تحليقها الحدود، ولا سلطات الهجرة والجمارك، ولا خطوط الأطالس السياسية؛ الخطوط التي يضعها صانعو خرائط الحدود. نعم. إنها أشبه بمزنة واعدة مسافرة في الفضاء الفسيح، لا تنتظر إنهاء إجراءات سفرها والحصول على تصريح. وليس في حسبانها ما يسمى بنطاق المجال الجوي. ذلك أنها إبداعات بلا حدود غايتها الارتقاء بالفكر الإنساني في كل مكان. وإذا كانت الأيديولوجيا في أحد تعريفاتها المتعددة هي منظومة من الأفكار المرتبطة بمجموعة عرقية أو اجتماعية أو سياسية، وإذا كانت لبعض الأفكار والمفاهيم خصوصية ثقافية قد تساهم في التباعد بين الناس، فإن ذلك الأريج العابر للقارات والمتحرر من أغلال الهوى الأيديولوجي يبشر بقيم كونية مشتركة تعزز التواصل والتقارب، وتلبي تطلعات الإنسان في الارتقاء بمستوى الحياة. عند هذه التخوم المشتركة تتجلى الرغبة في تحقيق حلم «المواطن الكوني» حيث تختفي غطرسة الهويات التي أشعلت الحروب والصراعات. وتتلاشى الخيلاء التي حوَّلت المسميات الجميلة إلى نعوت ومسميات سلبية، حتى أصبح التماس بين الثقافات غزوا، وأصبح التواصل استلابا، والتقارب تبعية. وهي الخيلاء نفسها التي أضافت إلى التدقيق في «أرومة» الأشخاص تدقيقا آخر في «أرومة» الأفكار والإبداعات! في فترة سابقة أصيب الوسط الثقافي العربي بالتخمة جراء التنظير المرتبط بهوس «الأمن الثقافي». كان لكل صوت من تلك الأصوات المطالبة برسم الحدود، وحفر الخنادق، وتشييد الأسوار، وتشديد الحراسات تعريف خاص بطبيعة ذلك الأمن، وبشكل الثقافة المراد حراستها. ربما كانت بعض النوايا حسنة، وربما كانت الغاية الحفاظ على الملامح الثقافية الخاصة بالمجتمع. وهو القلق الذي عبَّر عنه عاشق الحدود ريجيس دوبريه في كتابه «مديح الحدود» بقوله: «أن يتخلى المرء عن ذاته لهو جهد عبثي حقا. إذ من أجل تجاوز الذات من الأفضل أن نبدأ بقبولها، وأن نضطلع بالمسؤولية» وهو منطق سليم في إطار ذلك التوجه، لأنه لا يتعارض مع الرغبة في التواصل الإنساني. كما أن دافع دوبريه هو حماية مصالح فقراء العالم، والحد من هجرة الثروات، لا هجرة الأفكار المضيئة. وكذلك الحد من بعض سلبيات العولمة وتَغوّل الشركات العابرة للقارات، وليس إعاقة انتشار الأريج الثقافي والإبداعي العابر للقارات. لكن ذلك التوجه الرامي إلى اكتشاف المقومات الثقافية الذاتية قد اتخذ مسارا آخر. أو استغل لتمرير أجندات أخرى. أصبح وسيلة لبسط نفود الفكر الأحادي، وتحول إلى دعوة للانكفاء على الذات. ناهيك عن الوصاية على العقول التي حاول أن يفرضها أقل الناس نضجا ووعيا وثقافة. العالم مجموعة هويات متداخلة، أو دوائر متعددة من الانتماءات والهويات. مع ذلك هنالك من يحاول بناء الجدران والخنادق دفاعا عن هوية نقية. وهو هوس حاول المصابون به إعاقة التفاعل المنتج مع الأفكار والإبداعات الثقافية المغايرة للثقافة الخاصة. وقد تجسد ذلك الهوس في تمدد لائحة الممنوعات، وفي الرقابة على الفكر، وإسقاط حق الفرد في الوصول إلى مناهل الثقافة المختلفة. بخلاف هذا التوجه يستقبل الإنسان السوي إبداعات العالم الثقافية ولسان حاله يقول: «لا أعرف من أيَّة تربةٍ جاءت هذه الوردة، ولا أريد أن أعرف.. فالأريج وحده حقيقة ملموسة».