لماذا الهوَس ب «الهويّة» من التيّار المُحافظ العربي (أي ما يسوده في هذا المفترَق من تاريخنا الإسلامويّون، أو دعاة الدمج بين الدين والسياسة، بقيادة حركة الإخوان المسلمين)؟ هل هو شعور بالتهديد من حضارات أخرى أقوى ثقافيّاً وتكنولوجيّاً والهلع من الانقراض كما حدث لسكّان أميركا الأصليّين (وهذا تشبيه قد استُخدم تكراراً)؟ أم أنّ «الهويّة» باتت مفردة مخفَّفة تُشير إلى هدف سياسي ليس من الحنكة الإفصاح عنه؟ أم هو تمسّك لا منطقي بشيء هُم أنفسهم لا يفهمونه تماماً، وإن كان استفحال الوهن الحضاري في وعيهم والذعر البالغ من متربّصين في كلّ مكان قد وضَعاهم في حالة استنفار مستميت؟ عند الحديث عن هويّة شعب أو أمّة، فإنّ المقصود التقاء فريد لحقائق أرض وتاريخ وبشر نتجت منه خواصّ ثقافيّة تُميّز مجتمعاً عن غيره، كالدِّين واللغة والفكر والعِلم والفنّ والمأكل والمشرب والملبس. وهذه الهويّة الثقافيّة لا تنشأ في فراغ زمني ومكاني، ولا تجمد كبحيرة راكدة تشكّلت من مطر عابر وسرعان ما تتبخّر، بل هي كنهر متدفّق تصبّ فيه روافد ثقافات سابقة ومجاورة، وقد يصبّ بدوره في أخرى، في علاقة تأثُّر وتأثير ديّومة تتطوّر من خلالها الهويّة بشكل طبيعي. ومثلما تجري روافد النهر من أماكن أكثر ارتفاعاً بفعل الجاذبيّة، فإنّ التأثير الثقافي بين الشعوب مساره من الأعلى والأغنى ثقافيّاً إلى الأفقر والأدنى، أو كانتقال الحرارة بين الأجسام المتلامسة، من الأسخن إلى الأبرد. هذه سنّة الحضارة الإنسانيّة، فالهويّة روحٌ حيّة لا تنبعث إلّا بالطبيعة؛ لا تُقاد ولا تُوَجَّه، فليس لمؤسّسات سلطة ما تخطيط وهندسة الهويّة في عمليّة قَوْلبة جبريّة بالضرورة. كما أنّ في قولبة الهويّة الثقافيّة خطورة جسيمة، ليس فقط في الموقف الخصومي نحو ثقافة الغير المستهجَن لاختلافه والذي ينافي روح السلام والتبادل الثقافي والعلمي والاقتصادي بين شعوب الأسرة البشريّة، بل أيضاً في لفظ عناصر من داخل الشعب الواحد لا تُطابِق القالب المصنوع لتمثيل هذه الهويّة. ونزعة التطهير الداخلي الذي قد تؤدّي إليه نظريّة الهويّة الجبريّة هي الأكثر خطراً: النازيّة كانت مثالاً متطرّفاً للإفراط المرَضي المدمّر في الهوس بالهويّة: الآري النقيّ القويّ المتفوّق جسديّاً وعقليّاً. هو ليس هوَساً عربيّاً فقط، فتيّار اليمين في الغرب بيئة خصبة لأرباب نظريّة الهويّة الثقافيّة المفترَضة والمتفوّقة باستثنائيّتها، مثل «التقليد اليهودي - المسيحي» الذي يُصرّ مذيع قناة «فوكس نيوز» بِل أورايلي على إلصاقه بالولايات المتّحدة، والذي يُقصي الكثير من المواطنين الأميركيين (بدءاً بالسكّان الأصليّين أنفسهم) بما في ذلك المسلمون منهم. يبدو أنّ قولبة الهويّة الثقافيّة تميل دوماً لمحاكاة نموذج الفئة السائدة والأكثر محافظيّة في المجتمع، أي الجماعة الأقوى أو التي يُفترض أن تكون الأقوى، مثل فئة «البِيض الآنغلو- ساكسن الپروتستانت» (WASP) في الولايات المتّحدة. وباستكمال المقارنة مع التيّار المحافظ لدينا قد تتبيّن فئة مناظِرة لها، بعد تعريب الفكرة ثقافيّاً: «الذكَر العربي الأصيل السُنّي» (Sunni Authentic Arab Male أو SAAM)، حيث مفهوم «الأصيل» يتفاوت بحسب المجتمعات وتتعدّد مسمّياته: قبلي أو عشائري، ابن بلد، من عائلة عريقة، ابن ناس، إلخ، وكلّها في الواقع دلالات قوّة وسيادة ونفوذ تدعمها عزوة ما، يتفوّق بها «الأصيل» على غير «الأصيل»، وتعِده بحياة أفضل منه بغضّ النظر عن الجدارة الفرديّة. وعادةً يرتبط بمواصفات اجتماعيّة وثقافيّة وأخلاقيّة واقتصاديّة يُفترض الالتزام بها لاستيفاء الأصالة، كالممارسة الدينية، والتقاليد والقِيم، والهيئة والزيّ، وربّما حتّى اللهجة. وكلّ من لا تنطبق عليه هذه الشروط يقع في هامش هذه الفئة، ويشعر بالجور والتهديد، ويحيا حياته متوجِّساً ومتوجَّساً منه كفرد أدنى درجة من آخرين أقوى وأكرم. وهذا يشمل الشعوب المسلمة الأخرى من أمازيغ وأفارقة وفُرس وتُرك وكُرد وهند وسند ومالاي وغيرهم، أي نحو 80 في المئة من المسلمين؛ المتعرّبين من جذور غير عربيّة، الذين يشكّلون جزءاً هائلاً من مجتمعاتنا كافّة؛ أتباع المذاهب والمعتقدات الأخرى؛ والإناث. إن كانت نظريّة الهويّة الثقافيّة القهريّة هي ما يتمّ الآن السعي سياسيّاً وحركيّاً لتوطيدها وفرضها على المنطقة ومستقبلها، فهي ليست رؤية نهضة، بل ارتكاس إلى تصوّر عالق في حقبة الدولة العبّاسيّة والحركة الشعوبيّة على أقرب تقدير. الهويّة المقَوْلبة تُناقِض روح مجتمع مدنيّ يتساوى فيه مواطنون أحرار، بل تؤسّس لتوازن غير مستدام بين طوائف اجتماعيّة غير متكافئة، حيث يستميت المهمَّش لاحتذاء نموذج الهويّة هذا، ويضطرّ لتغيير نفسه وكبت ما فيها، وينسحق حتى يتشكّل بهيئة القالب، أو يُذعن للفئة السائدة صاحبة الأصالة ويقتات على رضاها عليه، أو يثور ضدّها متحزّباً بانتمائه مع رفاقه في التهميش. الهويّة القهريّة لن تُفرز إلا هويّات متخندقة في صراع بارد يُخشى اشتعاله في أيّ وقت، كأنّه امتداد عصري للتناحر القِبلي، وتطمس في خضمّ هذا هويّة الفرد، إذ تتقاطع انتماءاته واختياراته ممّا يجعلها أعقد من أن تُختصَر في نمط جامد. في عصر التحرّر، هويّة الفرد هي التي تستحقّ الهوَس من أجل تكريسها، لأنّ أساس هويّته في حُرّيّته وتساويه مع غيره، ولو ضمن هذا فسيكون انتماؤه إلى الهويّة الجماعيّة الطبيعيّة تلقائيّاً. * كاتب يُقيم في جِدّة. [email protected]