حين النظر في الكتابات الإسلامية المعاصرة التي تناولت الحديث عن التسامح، سنلاحظ أنها تفتقد الحس النقدي الموجه إلى الذات، ولا تقترب من هذا الحس بأية صورة من الصور، وبأية درجة من الدرجات، لهذا فإن هذه الكتابات لا تقدم خبرة نقدية من هذه الجهة. وتصدق هذه الملاحظة على حديث الشيخ محمد عبده حول التسامح في كتابه (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية)، وعلى حديث الشيخ محمد الغزالي في كتابه (التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام)، وعلى حديث الدكتور مصطفى السباعي حول التسامح الديني في كتابه (من روائع حضارتنا)، وهكذا على حديث الشيخ محمد الطاهر بن عاشور حول التسامح في كتابه (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام)، وحديث الدكتور شوقي ضيف في كتابه (عالمية الإسلام). هذه الكتابات أخذت على عاتقها بصورة رئيسة تلميع صورة التسامح في الثقافة الإسلامية، وفي تاريخ الحضارة الإسلامية، وجاء هذا المنحى ردا ودفاعا أمام المنتقدين أو المشككين أو المنتقصين عربا أو غربيين، مسلمين أو مسيحيين، لهذا فإن هذه الكتابات لم تكن في وارد النقد، ولا تود استحضاره والاقتراب منه، وتصويب النظر عليه، فالمنحى الذي سلكته لا يلتقي أو يتناغم مع الحس النقدي. التلميح بهذه الملاحظة ليس بقصد تحميل هذه الكتابات ما لا تحتمل، ولا حرفها عن سياقها أو صرفها عن مقاصدها، ولا تبديل طبيعتها وتغيير مسلكها، ولا حتى التشكيك في نواياها أو في مروياتها، وإنما لأنها تشبهت ببعضها وتطابقت، وأخذت بصبغة واحدة، وانحازت إلى جانب واهملت جانبا آخر، تعلم بوجوده وتحققه لكنها تعمدت الصمت عنه. نتفق مع تلك الكتابات على أصالة مفهوم التسامح في الإسلام، وثباته ورسوخه في الثقافة الإسلامية، وضربت به الحضارة الإسلامية مثلا ساميا جعلها متفوقة على باقي الحضارات الأخرى، مع ذلك فهذا لا يبرر السكوت عن ظواهر التعصب واللاتسامح التي حصلت في تاريخ المسلمين، وحصلت بتأثيرات لها علاقة بالسياسة أو بعوامل ثقافية أو اقتصادية أو اجتماعية، لكنها بالتأكيد ليس لها علاقة بالدين الإسلامي. فالمسلمون كغيرهم من البشر لم يكن تاريخهم معصوما وصفيا ونقيا من الأخطاء أو الزلات أو العثرات، فقد شهد تاريخهم في أزمنته القديمة والوسيطة والحديثة، ظواهر وصفت بالتعصب واللاتسامح حصلت مع المختلفين في الدين، وحتى مع المتفقين في الدين.ولم تعد هذه الظواهر في الخفاء، وليس هناك من يتكتم عليها، والحديث عنها لا يثير ازعاجا، ولا يولد قلقا، بل إن الإزعاج والقلق في عدم الاقتراب منها، والمكاشفة بها. من هذه الظواهر الدالة على التعصب واللاتسامح، ما عرف في الأزمنة الإسلامية القديمة بفتنة الخوارج التي ظهرت سنة 37 هجرية، ومعها بدأت أخطر ظاهرة حصلت في حياة المسلمين، وهي ظاهرة التكفير التي لم تمح في سيرة الفكر الإسلامي، وما زالت إلى اليوم تظهر جماعات تتشبه بها، وتوصف بخوارج العصر. ومن هذه الظواهر كذلك، ما عرف في تاريخ الفكر الإسلامي بمحنة خلق القرآن التي ظهرت في العصر العباسي، في العقد الثاني من القرن الثالث الهجري، وأحدثت ما أحدثت من أفعال بعيدة عن التسامح، ومن شدتها وصفت بالمحنة، وتعد من أغرب الحوادث التي حصلت في تاريخ الفكر الإسلامي، وبقيت هذه الظاهرة وظلت إلى اليوم موضع مساءلة ومناقشة وذلك لشدة غرابتها من جهة، وفداحتها من جهة أخرى، وغموضها من جهة ثالثة. يضاف إلى ذلك ما حصل مع ابن رشد وسجنه ونفيه وحرق كتبه الفلسفية في أواخر حياته، وتحديدا خلال الفترة ما بين (593 – 595ه) مع نهاية القرن السادس الهجري، الحدث الذي وصف في تاريخ الفكر الإسلامي بالنكبة. إلى جانب تلك السيرة الطويلة لظواهر التعصب واللاتسامح بين أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية التي حصلت في أزمنة وأمكنة مختلفة، وأشارت لهذه الظواهر وتطرقت إليها الكثير من الكتب والمصنفات على أقسامها الفقهية والكلامية والتاريخية، القديمة والحديثة، وما زالت هذه الظواهر تحصل إلى اليوم، بل إنها تشتد اليوم أكثر من أي وقت مضى. إن لفت الانتباه لهذه الظواهر، والاقتراب منها، والتعامل معها بمنطق التشريح والتفكيك والتقويض هو من صميم الحديث عن التسامح، فمن الواضح والثابت أن الحديث عن التسامح لا يكتمل من دون الحديث عن اللاتسامح، فنحن أمام حالة لها وجهان، الوجه الأول هو التسامح، والوجه الثاني هو اللاتسامح، فلا يكفي معرفة الوجه الأول من دون معرفة الوجه الثاني، ولا يمكن حماية التسامح وتحصينه من دون الاحتراز من اللاتسامح. وهذا يعني أن غياب الحديث عن ظواهر التعصب واللاتسامح، أحدث نقصا بينا في تلك الكتابات المذكورة، ولعل طبيعتها الدفاعية هي المسؤولة عن هذه الحالة، لكونها جاءت ردا ومواجهة مع المنتقدين أو المنتقصين، ومن طبيعة النزعة الدفاعية أنها تسلب الحس النقدي، إما بدافع أن الوقت ليس أوانه، والمناسبة لا تصلح له، ومن ثم الحكم عليه بالتعليق والتجميد أو التأجيل والتأخير. وإما بدافع عدم إعطاء الخصم مبررا أو حجة أو سندا أو تأييدا يدعم موقفه أو يقويه أو يرفع من رصيده، وإما بدافع إبقاء النزاع مع الآخر البعيد، وقطع الطريق على إمكانية نقل النزاع إلى الداخل في ساحة الذات. ولتوازن الموقف يمكن القول إن الكتابات السابقة أولت الاهتمام إلى الجانب الدفاعي في النظر لمفهوم التسامح، وأنجزت ما هو مطلوب منها في هذا الشأن، وعلى الكتابات التالية تخطي هذه الملاحظة والعناية بالجانب النقدي، ابتداء بالتعامل النقدي مع تلك الكتابات لتخطيها وإنجاز ما هو أجود منها.