موافقة مجلس الوزراء على التعديلات الجديدة للرسوم في عدد من القطاعات لن يكون انعكاسها المباشر على الإيرادات الحكومية فقط، بل هناك جوانب إيجابية سوف نلمسها في القطاعات التي استهدفتها، مثل القطاع البلدي وفي سوق العمل، وفي رفع كفاءة تشغيل المطارات والموانئ. في مقالات سابقة كان الحديث حول ضرورة التوسع في الرسوم لأغراض تتجاوز تنمية الإيرادات إلى تحقيق أهداف للتربية الوطنية وتعديل السلوكيات السلبية في المجتمع ومواجهة مظاهر الإسراف في استخدام الموارد. طبعا يأتي في مقدمة الممارسات السلبية ظاهرة التفحيط التي أصبحت تُمارس يوميا وداخل الأحياء السكنية، فلم تعد في أطراف المدن وفي الشوارع الفسيحة قليلة الحركة. تغليظ العقوبات في نظام المرور ربما نحتاج التوسع فيه لمحاربة جوانب عديدة لمحاصرة الكوارث الناتجة عن الحوادث. مثلا.. نحتاج غرامات وجزاءات رادعة لقائدي الشاحنات في الطرق السريعة، بالذات لمنعهم من تجاوز المسارات المخصصة للشاحنات، فالتجاوز سبب رئيس للعديد من الحوادث المرورية القاتلة. الكثير من الدول تفرض غرامات عالية على قائدي الشاحنات. التصدي لهذه الظاهرة ضروري لأن أمامنا سنوات طويلة لاكتمال مشاريع القطارات، والتي نرجو أن تساهم في الحد من النقل عبر الشاحنات. المخالفات المرورية وسلوكيات القيادة المتهورة خطر حقيقي علينا، والحكومة مطالبة باتخاذ إجراءات وعقوبات وآليات جديدة لاحتوائها. أيضا قرارات مجلس الوزراء استهدفت تنمية الإيرادات البلدية، وما أقره المجلس اتجه إلى النشاط التجاري، وهو في صالحه. استخدام اللوحات للدعاية والإعلان ضروري، إلا أن غير الضروري المبالغة فيها. الذي يزور بلادنا لأول مرة ينبهر لحجم اللوحات في الشوارع، وهي أحد مصادر التشوه البصري في مدننا، وأحد مصادر استنزاف الطاقة، وخطر على السلامة لأن أغلبها رديء المواصفات والتركيب. فوق هذه السلبيات والمخاطر، مع الأسف لا يتم تحصيل رسوم اللوحات بالشكل الصحيح بسبب الخلل الفني والأخلاقي في قطاع البلديات. لقد خسرت موارد الدولة عشرات المليارات في السنوات الماضية، والإيرادات المفقودة كفيلة بمواجهة تحديات المدن وتغطية نفقات الصيانة والنظافة. مدننا سوف تظل تعاني مشاكلها إذا لم تكن قادرة على تنمية موارد مستدامة. الأمانات تحتاج المرونة لإدارة مواردها المالية تحت إشراف المجالس البلدية المنتخبة. المجالس آلية عملية للتصدي لمشاكل المدن، ويُفترض أن تعطى الصلاحية لتنمية الإيرادات عبر تعديل الرسوم القائمة، أو إدخال رسوم جديدة تراها ضرورية في إطارها المحلي وحسب ظروف منطقتها. كما ذكرت في مقال الاثنين الماضي، تطوير القطاع البلدي يحتاج التحول إلى الإدارة الاقتصادية المحترفة للمدن. إذا لم نتحول ذهنيا ونطور أنظمتنا فسوف تبقى مشاكل مدننا قائمة ولن تدعم مقومات الحياة الكريمة، بل ربما تتفاقم مشاكلها وتصبح «المدن الكبرى المليونية»، مع ارتفاع معدلات الهجرة من القرى والبادية، حاضنة لأمراض المدن الكبرى التي تعرفونها. أيضا إقرار مجلس الوزراء تعديل الرسوم على التأشيرات له جوانب إيجابية على المدى البعيد يتجاوز تنمية الإيرادات. محاصرة الخلل في سوق العمل لن تأتي بالتشدد على القطاع الخاص عبر برنامج السعودة. لقد رأينا كيف أدى تطبيق هذا البرنامج عبر آلية التحكم في التأشيرات إلى حالة انقسام في المجتمع بين المؤيدين والمعارضين للسعودة، وخوفا على مجتمعنا هناك من دعا إلى استخدام آليات جديدة، للتحكم في سوق العمل مثل آلية الرسوم الذكية التي تستهدف إحداث التوازن بين العرض والطلب، حسب حالة القطاعات الاقتصادية. هذا التوجه، يحقق أهدافا منها سياسي أي إبعادنا عن حالة التوتر الاجتماعي، ويحقق هدفا اقتصاديا عبر دعم تنمية المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وأيضا لضرورة عدم معاقبة الأنشطة التجارية والصناعية المنتجة والحساسة للتكاليف الزائدة. أيضا ثمة هدف تربوي وطني وهو ألا تكون السعودة مكافأة مريحة لغير الجادين والمنتجين من شبابنا. إدخال الرسوم الجديدة يستهدف الحد من الطلب على العمالة غير المنتجة والتي ليس لها قيمة مضافة في الاقتصاد، وفي هذا دعم كبير لبرنامج توطين الوظائف، ويستطيع القطاع الخاص التكيف معها، كما أن الموارد المتحققة من الرسوم الجديدة سوف تدعم برامج التأهيل والتنمية الاجتماعية التي يجري العمل عليها عبر مبادرة «طاقات» التي بدأت مؤخراً. قبل عشر سنوات طرحنا في عدة مقالات ضرورة الاستعداد الجاد لحقبة الضرائب والرسوم الذكية والحد من سياسات الدعم المخربة للسلوك الاجتماعي، ف «البحبوحة النفطية» لن تدوم، وبدا هذا الحديث غريبا وغير مرحب فيه من بعض الناس، بالذات الذين يحبون أن يسمعوا ما يشعرهم بالسعادة، وليس ما يجب سماعه وإدراكه حتى لو كان مؤلمًا.. «الطبيعة البشرية تقول إن الناس أعداء ما يجهلون». حينئذ كان التوسع في الإنفاق على البنية الأساسية ضروريا ومشروع الحكومة ذهب بالاتجاه الإيجابي لتوسيع مشاريع البنية الأساسية فكان التوسع في إنشاء المرافق التي قد تفيض عن الطلب حاليا، وبقيت المشكلة في التشغيل والصيانة، وهذا التحدي الأصعب لنا. ولكن.. إذا واصلنا إطلاق المبادرات الذكية كما فعلت عدة وزارات في الأسابيع الماضية، فبحول الله تتحول التحديات إلى فرص تحمل بذور التطوير والأمل بنقلة جديدة في مجتمعنا. نحن نستبشر الآن بجدية الحكومة للتطوير والإصلاح، وعلينا أيضا أن نتوقع حسن إدراك وتفهم الناس لضرورات تطوير مجتمعنا، فالناس إذا أدركت عزم الحكومة وجديتها فلن تتأخر في الاستجابة والدعم، والشواهد كثيرة لوعي الناس وإدراكها لمصالحها العليا.