ربما يقفز سريعا في الذاكرة وللوهلة الأولى وأنت تحجز تذاكر السفر لكوريا تاريخها كدولة نهضت بعد حروب استمرت أكثر من أربعين عاما لتصنع حضارتها ومجدها في عشرة أعوام من جديد رغم أنها ما زالت ضحية أيدلوجيات ونكبات سياسية ألبست ثوب الديمقراطية ثم جعلت منها كوريتين. فكم هي تجربة صيفية فريدة أن تكتشف دولة لها تاريخ طويل حافل بالإنجازات سميت قديما «بدولة الهان» ، بل المثير أن تكتشف أن كوريا ليست كبقية الدول التي خططت لها فكم تفاجأت أن أولادي لهم فيها أصدقاء منذ زمن، بل اكتشفت في المقابل تناغما ثقافيا جعلني أرى أن أختي الصغرى تجيد الكورية بطلاقة وأن بناتي يفهمنها ويعرفن عنها الكثير، بل إن نكهة الرحلة هي عند الوصول حين رأيت أن صديقتهن الكورية المسلمة «تشيريم كيم» ذات السبعة عشر عاما تكون في استقبالهن وأن تسلم عليهن بالعربية وبحرارة وفرح شديد، وأن معرفتهن بها طويلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي أزالت بعد المسافات، عندها أدركت حقيقة أن العالم اليوم ولو اختلفت ثقافاته وأديانه صغير جدا، وأن العلاقات الإنسانية مشتركة، وأن الخلق الحسن رسول السلام بين الناس، وأن الدولة المتطورة هي التي تستطيع أن تسافر بحضارتها ونهضتها لتضع بصمتها على العالم، إلا أن كوريا استطاعت عن طريق صناعاتها وإعلامها المرئي ووعي شعبها أن تكون حاضرة متأقلمة بمشهد عالمي لا يحضر معه إلا منطق القوة والغلبة. لست هنا في صدد سرد تجربة سياحية لكوريا بقدر ما هي قراءة خاطفة لمدة أسبوع حافل بالمفاجآت والحكايات ترى مشاهدها في عيون عائلتك بصحبة صديقتهن «تيشريم» تلك الفتاة النجيبة المبتسمة ذات النشاط والتوقد الذهني والقلب المحب للعرب والمسلمين، والتي تسمع وترى من خلالها كوريا من الداخل، وكم في الداخل المثير خاصة حين تعرف أن تلك الفتاة المفعمة بالفرح والضحك تخبئ الكثير من الحزن، فكم وراء كل ابتسامة صادقة حزن عميق، كونها تعيش بين عالمين منفصلين، فالأول أنها البنت الوحيدة المسلمة في عائلتها المشهورة «كيم»، والعالم الثاني أنها تعيش مع والدتها بعد سنوات من طلاق أبيها من أمها، ولو أن ارتباطها بأبيها أكبر والذي اسمعنا على وجبة الغداء أنه فخور بابنته وأنه يحترم اختيارها للإسلام، فكم هي كبيرة تلك الفتاة التي ما زالت ثابتة باسلامها ومتفائلة برغم الحزن الذي يحيطها والغربة التي تعيشها. وما «تيشريم» في حقيقتها إلا نموذج واحد من فتيات طموحات ناجحات في عالمنا المادي الكبير، تلك الفتاة كانت نكهة الرحلة خاصة وهي تشكل مع أختي ثنائيا رائعا للتعريف بالإسلام لمن يتعرفون عليهما في الأسواق والمواصلات حتى أدركت أننا العرب الوحيدون وأن أفراد عائلتي أصبحوا دعاة بأخلاقهم، رغم أني رأيت أن «تشيريم الكورية» تقدم كل يوم لنا درسا أخلاقيا جديدا خاصة ونحن نخوض معها رحلات في عشرات القطارات المترامية الأطراف والمعقدة الخرائط والمنظمة المسالك والمتقنة بإدارتها ونظافتها، والتي تجوب مدينة سيؤول شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ولكم توقفت ضمن حكاياتنا اليومية مع حكاية الرجل الخمسيني الذي أجلسته أختي مكانها تقديرا لكبر سنه فسمع أختي تتكلم الكورية مع صديقتها فشكرها ودار حوار طويل معه وقال في نهاية الحوار: «شكرا أني قابلتك فقد عرفت منك الكثير فكم أعجبني تقدير أخيك وحواركما المبتسم، شكرا لك فقد غيرت قناعتي أن السعوديين يهينون المرأة ويهمشونها، لقد رأيت فيك مثلا لشعب ولدولة راقية لم يستطع إعلامنا الكوري أن يرينا حقيقتها» ثم ودعنا بعد انحناءات وشكر. من هنا تظل اللغة سفير التعارف بل كانت طريقا ممهدا لمعالم سياحية وثقافية مبهرة، ولكم توقفت متأملا عند حدثين، فسيؤول على كبر مساحتها وعدد سكانها إلا أنها لا تضم إلا مسجدا واحدا، وأن الحضور الإسلامي في خطر خاصة بعد حملات الإرهاب الداعشي الذي ربطه إعلامهم بالإسلام، وفي الزاوية الأخرى عند برج سيؤول ذي المشاهد السياحية المنوعة لكافة الأعمار إلا أن مشهد جدار الأقفال والمفاتيح الطويل يشعرك أن الشعب الكوري حساس ورومانسي فكل زوجين أو عشيقين يزورون البرج يشترون أقفالا ويعلقونها بعد كتابة أسمائهم ورموز عليها كرباط وحب موثق، فقلت في نفسي هل الحروب جعلت منه شعبا حذرا ويقظا وعاطفيا؟ لذا تظل كوريا كأي دولة وشعب حملت في تاريخها خبرات متراكمة ودروسا وثقافة محطة آسيوية تعلمك أن السفر ومعرفة فكر الشعوب رحلة شيقة تذكرك بما قاله زهير بن أبي سلمى: سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب ولكم كانت لعائلتي بصحبة الفتاة تيشريم الكورية مواقف كثيرة رأيت ثمارها في لحظات التوديع، إلا أن لحظة الوداع سبقها سؤال أختي لها هل تحتاجين شيئا فقالت: ساعدوني فقط أن أراكم قريبا في مكة.