حين يغرف الشاعر كلماته من بحر التشاؤم ليعبر عن ألمه في لحظة ما ولسبب ما، فإنه غالباً سيستطعم ذلك المذاق الذي تلذذ به عقله ووجدانه؛ لأنه وجد فيه شيئاً من التنفيس عن معاناته ولكنه سرعان ما يسقط في ذلك البحر القاتم فلا يخرج منه إلا ليواصل صناعة شباك الأحزان التي تلتف حوله قبل أن يدمن رميها ليصطاد حزناً جديدا. هكذا وجدت الشاعر حمد الحجي في ديوانه الصغير «عذاب السنين» فقد كان صانعا ماهرا للحزن يعيش به وله، لم يكن قادراً على الاحساس بالجمال من حوله، جمال اللحظة وجمال الحياة بأسرها؛ لأنه سلم عقله وقلبه لعقد المقارنات بينه وبين أقرانه الذين منحهم الله ما لم يمنحه من مسرات في الوقت الذي يرى فيه أنه يستحق أن يكون له ما كان لهم. ولكن تلك الميزات التي يراها في نفسه لم تنقذه من الانحدار تدريجياً في هاوية السواد الذي جلل أيامه. فقصيدته «في زمرة السعداء» تكشف عن ذاك الألم الممض الذي عاش فيه واحترق به فهو يقول في مطلعها: أأبقى على مر الجديدين في جوى ويسعد أقوام وهم نظرائي؟ ألست أخاهم قد فُطرنا سوية فكيف أتاني في الحياة شقائي؟ وراح يتساءل بعد ذلك وهو يبحث عن عيوبه ومزاياهم، أهو متلعثم وهم فصحاء؟ أأنا الضعيف العاجز وهم الحكماء؟ لست فقيراً وهم ليسوا بأثرياء! لست بخيلاً ولا هم من الكرماء، أسئلة كثيرة تتردد في عقله ولم يجد لها سوى إجابة واحدة، فهو شقي بفكره لقد نظروا في الكون نظرة عابر يمر على الأشياء دون عناء وأصبحت في هذه الحياة مفكراً فجانبت فيها لذتي وهنائي ومن يطل التفكير يوماً بما أرى من الناس لم يرتح ونال جزائي وفي القصيدة أيضاً يدرك الشاعر أن تشاؤمه هو الذي جر عليه هذا الشقاء الذي يعيشه ويبدو مقراً بأنه غير قادر على تغيير هذا المسار القاتم في حياته والذي حوله بالفعل إلى صانع للحزن ومن يمش فوق الأرض جذلان مظهراً بشاشته يمرر بكل رواء تغني على الدوح الوريق حمامة فيحسبه المحزون لحن بكاء وتبكي على الغصن الرطيب يظنها حليف الهنا تشجي الورى بغناء ألا إنما بشر الحياة تفاؤل تفاءل تعش في زمرة السعداء إنه يتجرع الداء ويقدم لغيره الدواء إذ يبدو أن التشاؤم صار جزءاً منه لا يستطيع التخلص منه حتى وإن كان مدركاً لآثاره السيئة عليه. وما من شك أن قراءته لدواوين أساطين التشاؤم من الشعراء؛ أبو العلاء المعري، وايليا أبو ماضي قد طابت له وانعكست عليه آثارها التي دفعته إلى مزيد من التشاؤم الذي تحول إلى داء لا أشك للحظة في أن المرض النفسي الذي عانى منه في نهاية حياته هو نتيجة لذلك التقلب بين أمواج التشاؤم وعدم الرضا التي سيطرت عليه فما استطاع أن يخرج منها ولا عجب أن يضج عقله بأسئلة عن جدوى حياته وهو يرى أمنياته تتبعثر مرة بعد أخرى فلا تطيب له الحياة التي لم يحسن الاستمتاع بما فيها من تجارب ترضيه مرة وتسخطه مرة كباقي البشر يا إلهي أظلم الكون ولم تر عيني في دجاه ألقا في حياتي ما الذي أعددت لي كان أولى ألا أُخلقا أمل يخبو وقلبي يرتمي فوق أشواق الضنى منسحقا ومساء ليس فيه نجمه وصباح نوره ما اندفقا وهو يعترف مرة بعد أخرى بعدم قدرته على تذوق الجمال من حوله فكل ما يراه الناس من جمال هو يرى فيه الجانب القبيح فقط! وإذا أعجب الأنام بشيء بت منه في موقف المرتاب لا أرى البرق في السحاب ضحوكاً وبأذني بكاء رعد السحاب أترك الزهر في الروابي وأرنو نحو جاثي الصخور تحت الروابي لو تراني وقد طحا بي فكري وأطارت مني الشؤون صوابي لتوهمتني بريئاً من اللب ضعيفاً محطم الأعصاب ثم لم تدر أنني في سماء الفكر أحيا كعابد أواب هكذا عيشتي رحيل مع الفكر أحيا بعيد أو نظرة في كتاب كم قسى الشاعر على نفسه بهذا التشاؤم المركز وقسى على قراء شعره به حين لم يفسح في ديوانه لكثير من الأمل والجمال والبهاء الذي توقف عنده في لحظات قليلة شاردة تجن علي بالغ في التجني فمن ألم الجوى استوحيت فني ومس بالقد منتشياً كغصن جميل في اعتدال أو تثني وأسمعني حديثك إن روحي يمور به صدى صوت المغني كأن الله أولاك افتتاناً فمازج فاك بالوتر المرن