بين هاتف يلاحق مَجد الروح من بوابة الكلمة وبين جبروت شاعر رحالة يَستسهِل المسافات ركضا وراء معنى ألا تكون هذه الروح مجرد مقتطَف باهت اسمه العُمر.. يتأوه عبدالعزيز خوجة في كشكول أسفاره - سِفر تلو الآخر - مدَثَّرا بالحَرف منتشياً كما هي السحابة غير البيضاء في ضيافة سماء مشتعلة بالنقاء. (سِفْرُ الأَنا) في هذا السِّفر يقتبسنا هذا الشاعر ليعمم تباريح النفس الشاغرة ويصافحنا فرداً فردا بكفٍّ واحدة تزدهر بعمق القصد وسلاسة التبليغ.. نصٌّ يحمِّله هزالة التكوين عندنا والذي لا يتعدى صدى صراخه هالة الأنا.. وأراه في ذلك يُضمِر في جوف كل كلمة.. بعداً خلاقاً يدغدغ به سَهونا ويقلّص من خلاله مسافة النأي عن أصل ذواتنا الإنساني ويزيح رمادات احتراقاتنا عن مسام النفس غير الأمارة. فعندما يقول في مطلع السِّفر: «مُتْ يا أنا...أو كُفَّ عني للأبدْ! نَفِدَ الجَلدْ إِمَّا على جَمْرِ اللّظَى قَدَمايِ،أو فَوْقَ البَرَدْ اتْرُكْ يَدي لا تُعْطِني يَدَكَ المُنى وَعْداً يقَيِّدُني بأغْلالٍ مِنَ الماضي وأغلالٍ مِنَ الآتي وحَبْلٌ من مَسَدْ» فإننا أمام قسوة الأمر المجازي (مُتْ) بالفعل الارتدادي داخل معتقل النفس.. جلْدٌ مِن الذات ولهَا. ذات استنفدت مخزون صلابة صبرها بَعد استفحال عاهة الأنا وجنوحها إلى منطقة الخطيئة كورم خبيث في جسد الروح. الذات التي أنطَقها خوجة من موقعَي الأنا المتكلم وكذا من الآخر الذي ليس إلا مرآة تَستنسخ المقابل لها.. تاركا لنا اصطفاء هوية هذا الآخر التي لا تخرج عن ثنائية (الجلاد أو المجلود) والموقعان سيان لأن خوجة في هذا الاشتكاء يقلدنا دور ذاته الأخرى التي يَصُب عليها سياط انتقاداته وكذا تباريح الروح الواعية التي يريد إيقاظها فيه وفينَا. ذات يروم شاعرنا - باعتباره عرَّابها - الهروب بها ومنها إلى شموخ الاعتراف بالشطط.. والإقرار بتواجد فيروس الأنا ووجوب استئصاله.. وينسحب هكذا تأوه على ما لحق من تضاريس هذا السِّفر حتى نقف على قوله: «إني أنا الكِيّانْ قد جاءَ مِن رَحِم الزَّمانْ قَلْبي المُركَّب مِنْ شياطينٍ وطينْ وعَجينَةٍ مَمْزوجةٍ بالنّور واللّهَبِ المُذابْ كَيْفَ التّوازُنُ في معادَلةِ الحِسابْ؟!» أنا هذا المخلوق الموصوم بثروة العقل والمصطفَى من الخالق (أنا الكيّان) والبوابة الناطقة الفضفاضة بسِعة الأنموذج الأكثر إجابة على ما يدور في فلك الوجود من الأسئلة.. هكذا وعلى غرار الإصبع على الجرح يدق عبدالعزيز خوجة جرس الإنذار في ضمير القلب منّا مِن موقع الشاهد الذي سيستعرض لاحقا عناصر التكوين سياناً إن سميناها بالمتناقضة أو المتكاملة كما هو الشأن في تكاملية السالب والموجب في اشتعال مصباح.. شاهدٌ يغرقنا في الاستفهام عما إذا كان للعقل المحسوب الممنطَق جواب عن كيفية وناتج حسابٍ يَخضع لهكذا متاهة (كيفَ التّوازُنُ في مُعادَلة الحِسابْ) حيث يقر الشاعر بعدم القدرة على القطع في ذلك مذَيلاً ومؤكداً توجسه بعلامتي الاستفهام والتعجب كعنصرين تعبيريَين ومترجِمين(؟!). وبهذا لن يكون لنا مِن بد غيرُ الإقرار بأن خوجة لا يُقرئنا وجهَا العملة من باب إثبات قدرته على استنساخ أكثر من وجه لنا من خلال التكاتف الاستعاري ذي البعدين الإيحائي (رحم الزمان - عجينة ممزوجة بالنور...) والمباشر (قلبي مركب - معادلة الحساب)..ولكنه فعل ذلك من قبيل البعد الاستفزازي لتحريضنا على قراءته من عديد الزوايا كتحديدٍ لإقامة أذهاننا.. ويتجلى هذا عندما نجده يعانقنا بقصدٍ حيث يقول: «هذا أنَا، يا أنْتَ يا روح الفَلَقْ لَمْ أَخْشَ في لَيْلي الأَرقْ وذِراعيَ الوَلْهى تعانِقُ فجْرَ دَهْشَتِكَ الصَّبوحْ قَدْ طالَ بي سَفَري إلَيكَ... لِنَتَّحِدْ ودَمي إلى لُقْياكَ جَمْرٌ يَتَّقِدْ ولهِيبُهُ يَجْتاحُنِي وحَنينُهُ مِنْ رَهْبَةِ اللُّقْيا بِحارٌ تَرْتَعِدْ» إذ نجد أنفسنا أمام واجب استثنائي لشاعر تتشاطر في وصْلة بوحه هذه مسؤولية الترفع عن التهافت على استدعاء المكونات الجمالية لنصه هذا فقط.. مع الإغراق في حبل الوصال مع مخابئ الروح في شقَّيها السائل والمساءَل. فحين يستدعي خوجة السَّفر في محدوديته المسافاتية مهما امتَدّ طوله..فإنه يروم إلى أن يقزِّم الحياة ليجدِّد في ذاكرتنا أننا بين كرّ البدء وفرّ الانتهاء لسنا بصانعي قرار.. وأن الشغف بتضاريس هذه الحياة يقابله في فسيفساء النفس - بوعي أو بدونه - انعطافات مكبوتة تصب في أن المنشود هو العودة إلى الأصل أو المنطلَق..وأن القلق الذي نحمله تجاه ما ورائية الموت التي نستقبلها دوما في أذهاننا بأقنعة الخوف..(قد) تكون في تفاصيلها المجهولة أكثر طمأنينة وأوسع ترحيبا لاعتبار أننا لسنا أكثر من تكوين اختباري خارجي لا مناص من رجوعه إلى الكل (الخالق).. والمؤكد أن خوجة لم يَختر (الأنا) جوهراً لسِفره هذا من قبيل ابتزاز مشاعرنا الهائمة في ملكوت الحياة ومغناطيسيتها القاهرة.. ولا من باب السّلب الذي تترجمه أنانية كل منا ونرجسيته ولا حتى من قبيل الوعظ المجاني الجاهز.. ولكن في اعتقادي أن الدهشة الخلاقة هي في أن عبدالعزيز خوجة يريد تحويل انتباهاتنا وتبديل قلقنا مما يفرزه خوفنا من الأسئلة بتسخير ماكينة الشوق إلى بطل التكوين.. وأن ندوِّن على جدار السَّفر (العُمر) رصيد شوق للقائه السرمدي. ويجمع شاعرنا شتات الماهية ويقفل دفتي سِفره الشاسع: «ماضٍ إلى أبديَّتِي روح تماهَت في المدى جُرْحٌ تَناثَرَ في الشَّفَقْ ولَئِنْ صَمَتُّ عَنِ الهَوى فَلقَدْ حَرَقْتُ بِأنَّتي كوناً بآهاتي نَطَقْ» جميل أن يُقِرّ هذا الرحالة بالصّمْت عن علانية الهيام بالخالق والعكس صحيح.. ولكنه سرعان ما استطرد مبرراً بأن الآلية المعتمدة للاعتراف في هذا الصمت إنما هي أكثر عمقاً وألماً وشوقاً.. وهي التي أفرزَتها ثرثرة الروح بالأَنّات. ولكن الحتمي المتبادل القائم بين طرفي معادلة هذا السِّفْر (الخالق والمخلوق) وكذا بغض النظر عن أي تقنين في ذلك ورغم أن لفظ (الأبدية) يَحمل في مداه «الزمكاني» كل المعاني.. إلا أنه فكّكها في شيء من التأكيد والانتشار ذاهباً في بعده الاستعاري إلى أبعد المنازح المتاحة تعبيريا (الأبدية والمدى والشفق والكون).. ولأن خوجة - المخلوق الفرع - تستحوذ على ملامح بوحه مغنطةُ وشوقُ الالتحام بالأصل.. فإننا نجده محاولاً على امتداد مقارعته للأنا في شقها الوبائي خلخلة الذوات الإنسانية - التي يمثلها - قصد تنقيَتها عبر الكلمة الثاقبُ كنُّها وتنظيفها من شوائب الارتباط بفَواني الحياة وتبديلها برصيد أكثر ثباتاً وحكمة وهو توجيهها نحو عاطفة أرسخ هي الودّ في لقاء الحبيب والمحبوب (الخالق والمخلوق)، فأعطانا هذا الشاعر جرعة علوية ندُر وجودها.. وعلى شاكلة المتورط المخلِّص أعطى عبدالعزيز خوجة صوت بوحه هذا ملامح ذاكرة اعترافية مخضبة بالندم. ناقد من المغرب