نحن البشر نميل إلى ملذات الحياة ونحبها ونفر من آلامها ونكرهها، فالغرائز تحرك الكثير من سلوكنا، وتوجه تصرفاتنا، وهذا واقع مشاهد في حياة الناس في ميلهم الجارف إلى المال والنفوذ والشهرة، والجنس الآخر.. ويطلق العلماء على هذه الميول والرغبات (الهوى)، ولنا أن نسأل هل هو أمر مشروع أو غير مشروع؟ الشرع والعقل ينظران في مشروعيتها إلى جانبين: 1. أن تطلب هذه الرغبات البشرية بحقها دون عدوان على حقوق الآخرين وأعراضهم. 2. أن يُراعى الاعتدال في الاستمتاع بها دون إسراف وإفراط. قال الإمام ابن القيم في (روضة المحبين): «الهوى ميل النفس إلى ما يلائمها، وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح. فالهوى ساحب له لما يريده، كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه، فلا ينبغي ذم الهوى مطلقا ولا مدحه مطلقا، وإنما يذم المفرط من النوعين وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار». ويدل على صحة هذه النظرة من العلامة ابن القيم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، فَمنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا بَارَكَ اللّهُ لَهُ فِيهَا، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِيمَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ النَّارُ» رواه الطبراني وصححه الألباني. إن اتباع الهوى يكون مذموما عندما يكون مخالفا لهدى الله تعالى وللحق الذي جاء به وهذا يفهم من قوله تعالى: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(50) سورة القصص، فالقرآن يحكم بضلال من «اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ»، وهذا يعني أن اتباع الهوى الموافق لهدى الله أمر محمود حيث يستفاد من قوة الدوافع الفطرية في اتجاه السلوك الصالح. إن هذه الرؤية الدقيقة لحقيقة الهوى تساعدنا على طريقة التعامل الصحيح معه من خلال ضبط الهوى والتحكم فيه وليس استئصاله من النفس. فالمطلوب أن نقود الهوى لا أن ننقاد له، ولكي ننجح في ضبط الأهواء علينا أن نوفر أمورا ثلاثة: 1- الوعي بمخاطر اتباع الهوى المخالف للشرع: الهوى طاقة دافعة أشبه بمحرك السيارة، فتصور إن كانت بلا مقود أو كوابح ستقود حتما إلى الموت والهلاك.. إن أخطر ما يصيب الإنسان فقدانه السيطرة على أهوائه، واندفاعه للبحث عن اللذة الفورية مما يورطه في حماقات واعتداءات على الأعراض والممتلكات. والهوى في حالة انفصاله عن الهدى ما يقع في شيء إلا أفسده -كما يقول ابن القيم- فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحُكْمِ أخرج صاحبه إلى الظلم وصده عن الحق. ولهذا تخوف منه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في قوله: «إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى» أخرجه أحمد. وقد ينتهي به الحال ان يستعبده الهوى وتسترقه النزوة، قال تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ» الفرقان (43). 2- تصور مكاسب ضبط الهوى: إن ضبط الهوى يعني الانتفاع من قوة دوافعه في فعل الخيرات، والظفر بسلامة الدين والعقل والعرض والمال والجاه وتحرير للإرادة الإنسانية من أن تسترقها أهواء صغيرة. كما أن ضبط الهوى يمكننا بالاستمتاع بما نحبه ونهواه من طيبات الحياة دون حرج ما دمنا في دائرة المباح، والأصل في الأشياء الإباحة. وأعظم من هذا كله نيل رضا الله وجنته: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» سورة النازعات (40-41). 3- تدريب النفس على الامتناع الإرادي عن بعض الملذات.... إن الامتناع الاختياري عن بعض مشهيات النفس لفترة زمنية يدعم الإرادة الذاتية في ضبط الذات، ومن أقوى الطرق هنا عبادة الصيام التي تعمل على تربية الإرادة من خلال تأجيل الإشباع للحاجات العضوية. قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (183) سورة البقرة. فالصيام يمنح الإنسان تدريبا عاليا وقدرة فائقة على التحكم في المثيرات المتعلقة بالرغبات أو الشهوات، فيتقي السقوط فيما لا يحل له منها. وها هو رمضان على الأبواب فرصتنا الذهبية لضبط أهوائنا الشاردة، فنسأل الله تعالى أن يبلغنا إياه ويعيننا على صيامه وقيامه.