النفس تهوى على حسب حالها, فإنْ كانت نفساً صالحةً فهي تهوى فعل الطاعات والتقرب إلى الله بأنواع القربات ومجالسة أهل التقوى والصلاح, فيكون هواها تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم, وهذه النفس نفسٌ طيِّبةٌ زكيَّةٌ, وإنْ كانت النفس تهوى اقتراف المعاصي والسيئات ومخالفة أوامر ربِّ البريات فهي نفسٌ سيئةٌ خبيثةٌ شقيَّةٌ في الدنيا والآخرة إنْ لم تتب إلى الله, والهوى مصدر قولهم: هوى يهوي, وتدل المادة التي اشتق منها على الخلو والسقوط... ومن ذلك الهواء بين السماء والأرض سمي بذلك لخلوه, وكلُّ خالٍ هواء, قال تعالى: ( وأفئدتهم هواء) أي خاليةٌ لا تعي شيئاً, ويقال: هوى الشيء يهوي أي سقط, والهاوية جهنم؛ لأن الكافر يسقط فيها, يقول ابن فارس: وهوى النفس مأخوذٌ من المعنيين جميعاً (أيْ الخلوِّ والسقوط) لأنَّه خال من كل شيء ويهوي بصاحبه فيما لا ينبغي وقال ابن منظور: (وهوى النفس إرادتُها, وقيل محبَّة الإنسان الشيء وغلبته على قلبه, قال تعالى: ( ونهى النفس عن الهوى ) معناه: نهاها عن شهواتها وما تدعو إليه من معاصي الله, وقيل الهوى هوى الضمير, ومتى تُكلِّم بالهوى مطلقاً لم يكن إلا مذموماً حتى يُنعت بما يُخرج معناه عن الذم كقولهم: هوىً حسن, وهوىً موافق للصواب). وقال الكفوي: (الهوى: ميل النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع) وقال الراغب: (الهوى ميل النفس إلى الشهوة) وقال ابن الجوزي: ( الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه) وقال الجرجاني: (أهل الأهواء هم أهل القبلة الذي لا يكون معتقدهم معتقد أهل السنة, وهم الجبريَّة والقدريَّة والروافض والمعطِّلة والمشبهة وكلٌّ منهم اثنتا عشرة فرقة) ويقول الإمام الماوردي: ( فرقٌ ما بين الهوى والشهوة أنَّ الهوى مختصٌّ بالآراء والاعتقادات, والشهوة مختصَّةٌ بنيل المستلذات فصارت الشهوة من نتائج الهوى والهوى أصلٌ وهو أعم) وقال ابن تيميَّة: (صاحب الهوى يُعميه الهوى ويصمُّه, فلا يستحضر ما لله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله, بل يرضى إذا حصَّل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصَّل ما يغضب له بهواه, فليس قصده أنْ يكون الدين كله لله وأنْ تكون كلمة الله هي العليا, بل قصده الحميَّة لنفسه وطائفته أو الرياء؛ ليُعظَّم هو ويثنى عليه أو لغرضٍ من الدنيا, فلم يكن لله غضبه ولم يكن مجاهداً في سبيل الله, بل إنَّ أصحاب الهوى يغضبون على من خالفهم وإنْ كان مجتهداً معذوراً لا يغضب الله عليه, ويرضون عمَّن يوافقهم وإنْ كان جاهلاً سيء القصد, ليس له علمٌ ولا حسن قصدٍ, فيفضي هذا إلى أنْ يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ويذموا من لم يذمه الله ورسوله, وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله). إنَّ معالجة الهوى تكون بالعزم القوي في هجران ما يؤذي من المشتهيات, وهذا يحتاج إلى مجاهدةٍ وصبرٍ, وكذلك فإنَّ للتفكر دوراً مهماً في مجاهدة النفس؛ لتدفع الأذى الحاصل من اتباع الهوى, فالإنسان لم يخلق للهوى, ولاتباع الهوى عواقب تفوِّت الفضائل وتوقع في الرذائل, وتهدم الجاه الحاصل في الدنيا إضافة إلى الإثم المترتب عليه, قال جل وعلا: (أفكلَّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا ًكذبتم وفريقا تقتلون) وقال تعالى: (فإنْ لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضلُّ ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله إنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين) وقال تعالى: ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) وقال تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) والآيات المحذرة من اتباع الهوى كثيرةٌ, فعلى المؤمن الحذر, وعليه أنْ يعمل ما يرضي الله سبحانه وتعالى بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه, عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إنَّ مما أخشى عليكم شهواتِ الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى ) أخرجه أحمد والبزار والطبراني وصححه الألباني.والهوى من شرِّ الأدواء, قال الحسن البصري رحمه الله: (الهوى شرُّ داءٍ خالط قلباً) كما كان السلف – رحمهم الله- ينهون عن مجالسة أهل الأهواء – أي أهل البدع والضلالات- قال الحسن البصري رحمه الله: (لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم) وقال إبراهيم النخعي رحمه الله:(لا تجالسوا أهل الأهواء فإنَّ مجالستهم تذهبُ بنور الإيمان من القلوب, وتسلبُ محاسن الوجوه وتورث البغضة في قلوب المؤمنين). وقال أبو قلابة رحمه الله: (لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أنْ يغمسوكم أو يُلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون). قال ذو النون المصري رحمه اللّه تعالى:(إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء: الأول: ضعف النية بعمل الآخرة. والثاني: صارت أبدانهم مهيّأة لشهواتهم. والثالث: غلبهم طول الأمل مع قصر الأجل. والرابع: آثروا رضاء المخلوقين على رضاء الله. والخامس: اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم صلى اللّه عليه وسلم. والسادس: جعلوا زلّات السلف حجة لأنفسهم، ودفنوا أكثر مناقبهم) وقال حكيم: (العقل صديقٌ مقطوع، والهوى عدوٌّ متبوع)انتهى. وأقول: (إني أرى أعمى البصيرة لا يسمع إلا بهواه ولا يكتبُ إلا بهواه ولا يقولُ إلا بهواه, فرأيهُ بما يهواهُ معقود, ولسانه لذوي الفضل جحود, أعياهُ هواه أنْ يتبع الحق فضَلَّ وما اهتدى, وإلى الهاوية هوى, عصمني الله وإياكم من اتباع الهوى وغفر لي ولكم في الآخرة والأولى). قال الشاعر: إن الهوان هو الهوى قُلب اسمه فإذا هويت فقد لقيت هوانا * خطيب جامع بلدة الداخلة (سدير)