ليس من باب الترف، صرف المزيد من الجهد في وضع الرأسمالية تحت مجهر النقد، فهي باتت الفلك الذي ندور فيه، وتتمحور حوله حياتنا، فقد تجاوزت كونها نظرية ضمن نظريات علم الاقتصاد، فتحولت لعقيدة عامة، تشبه لحد كبير العقائد المعروفة، غير القابلة للنقاش، والمُتسمة بالعمومية، والشمولية من حيث نواحي الحياة. ما يهمنا في هذه المرحلة الاقتصادية المفصلية، والتي يتم فيها الترويج للرأسمالية بشكل متزايد ، ليس لغة الأرقام التي يمتاز بها المنشغلون بهذا العلم، فلهذه المسألة رجالها. إن ما نود التركيز عليه، هو الآثار الاجتماعية التي تخلفها الرأسمالية، على شكل وبنية الاجتماع السياسي، في البلد الذي تتمكن من التغلغل وسط خلاياه، وتسيطر عليه، حيث يغدو كل شيء للبيع، وكل شيء قابلا للتثمين، وهو بكل تأكيد خاضعٌ لشروط العرض والطلب. لا أحد يقول ان الرأسمالية لم تساهم في تطوير الاقتصاد العالمي، وجعله أكثر مرونة وفاعلية وانتاجية في مراحلها الأولى، لكن ذاك «الزمن الجميل»، وتلك الظروف العالمية انقضت. انفراد الرأسمالية وتسيدها لا يعني بالضرورة، تسليم كل المجالات وإخضاعها لمنطقها، وإلا فإن كل شيء يصبح معروضاً للبيع، بحسب تعبير المفكر الأمريكي، مايكل ساندل، صاحب السؤال الشهير «ما الذي لا يستطيع المال شراءه؟». في ذاكرة أي ناقد جدي للرأسمالية قصص كثيرة، تؤكد أن الانتهازية من صميم النظرية، لكن الاستشهاد لا بد وأن يكون على قدر المأساة، من أجل توضيح نتائجها الاجتماعية والسياسية المرتقبة. في الولاياتالمتحدةالأمريكية، قامت إحدى الشركات بشراء دواء لعلاج عدوى داء المقوسات القاتل، لمرضى الإيدز مقابل 55 مليون دولار، ورفعت الشركة الجديدة سعر الحبة، بين ليلة وضحاها، من 13.50 دولار إلى 750 دولاراً، (نقلاً عن مجلة فوربس) دون أدنى مسؤولية اتجاه المجتمع، وحين سُئل مديرها التنفيذي، مارتن شكريلي، عن السبب وراء رفع الأسعار، أجاب: «أعتقد أن أسعار الرعاية الصحية غير مرنة. كان علي رفع الأسعار أكثر». معللاً تصرفه: بأن هذا هو الواجب اتجاه المستثمرين، وان هذا هو المجتمع والنظام الرأسمالي والقواعد الرأسمالية التي تعلمناها في مدارس الاقتصاد، حيث يتوقع منا المستثمرون زيادة الأرباح في كل عام. ليس هذا إلا نموذجا واحدا، من النماذج الكثيرة التي انتجتها الرأسمالية الحديثة البشعة. يلاحظ ساندل بنظرته الثاقبة، أن الرأسمالية قلبت النظام الاقتصادي الغربي، من نظام السوق المفتوح، كأداة ترفع الانتاجية وتوفر الخدمات، لمجتمع السوق، الذي يقود المال جميع سلوكيات وتصرفات الأفراد. يضرب لنا ساندل أمثلة مهمة على هذا التحول الخطير في العقل الاقتصادي الأمريكي، من خلال تسليط الضوء على الحروب الأمريكية الأخيرة، في افغانستان والعراق، فقد شارك فيها جنود من شركات مختلفة «كبلاك ووتر» وغيرها، أكثر من جنود وزارة الدفاع. الرأسمالية في حلتها الجديدة تحولت من أداة لتنظيم الاقتصاد، لكونها نمط حياة، تصبغ جميع ملامح المجتمعات وتتحكم فيها، من خلال قتل قيمه وأخلاقياته النبيلة، حيث يكون كل شيء للبيع.