بوتسوانا بلد صحراوي يعتمد على منتج واحد يستخرج من باطن الأرض، ولما علمت أنه سينضب خلال 20 عاما منحت 62 % من أراضيها إلى الحيوانات، لتشكل أجمل محمية طبيعية في إفريقيا لتنقل بمرونة تامة اقتصادها من تحت الأرض إلى فوق الأرض من استخراج الماس إلى سياحة السفاري. استقلت عام 1966 وهي أفقر دولة في العالم بمتوسط دخل 64 دولارا في العام وهو اليوم ب18900 دولار. هي أكثر دول إفريقيا نموا كل عام وهي أيضا أقل دول إفريقيا في معيار الفساد في كل عام. "زرتها لأستطلع حقيقة تلوث تجارة الماس بالدم فخرجت منها بنظريتي هذه. ظننت أولا أن سبب النمو المذهل هو انعدام الفساد لكن ذلك عامل فقط. أما السبب فتشرحه الأسطر التالية".
النظام الرأسمالي بوتسوانا عندما استقلت عام 1966 لم تأخذ بالنظرية الاشتراكية كمعظم الدول المستقلة في تلك الفترة، بل اختارت النظام الرأسمالي. ولكنها أعطته حقه ومستحقه. أعطته شروطه كاملة فأعطاها نموا مذهلا. كلنا نعلم أن سحابة القرن العشرين ما عدا طرفيه شهدت صراعا بين النظرية الاشتراكية والنظرية الرأسمالية، وانتهى الصراع بموت النظرية الاشتراكية بين آهات لوعة الفقراء ودموعهم وتهليلات فرحة الأغنياء وجيوبهم. ماتت ليس لعوار فيها أو مرض كان يعتريها، بل لانهيار الجدار السياسي الذي كانت تستند إليه وهو الاتحاد السوفيتي. فانفرد العالم بالنظرية الرأسمالية التي يقول معارضوها إنها نظام شديد الكفاءة لكن بلا قلب. فيرد روادها بأنها شديدة الكفاءة فتغني عن القلب، فالكل يربح والكل يعمل والكل يكسب واليد الخفية "كما قال آدم سميث" تعمل لتحقيق التوازن. سواء أحببناها أو كرهناها إلا أن النظرية الرأسمالية حقيقة ذات آلية عجيبة، التوازن في لمح البصر والانتقال أسرع من السمع والبصر، موارد تتحرك وأموال تتجمع وأرباح تتكدس ووفورات تتحقق. قوى السوق يحركها ناي سحري، لكن ليس بيد موتسارات بل هو السعر، ومن ورائه الطلب. لا يهمنا أنها بلا قلب، بل يهمنا الآن للنهضة أنها شديد الكفاءة، فعلا إنها شديدة الكفاءة، لكن ذلك النظام لا يعمل إلا إذا تحققت شروطه، وشروطه قاسية، وهو عنيد، عنيد فإن لم تحقق له شروط عمله انقلب عليك وعطلك. فلن يعطيك تلك الكفاءة، ولن تعمل آلية السوق السحرية بقول إبرا كادابرا، بل بدفع ثمن غال تكرهه معظم الدول النامية ألا وهو المساواة التامة في الفرص للجميع. فالمخالف حين يخالف لا يتعدى على القانون فقط، بل يعطل آليات نجاح النظام الاقتصادي الرأسمالي كله. لذا فالنظام الرأسمالي لا يعرف الهبة ولا المنحة ولا الاستثناءات، لا جعول به ولا أعطيات.
نظرية تعطل الآلية لنضرب أمثلة وهمية قد لا تكون موجودة إلا أنها تشرح نظريتي عن "تعطيل الآلية" ولأؤكد هنا وبكل وضوح أن هذه كلها قد تكون نتيجة قرارات صائبة وصحيحة ولها أسبابها الوجيهة في حد ذاتها إلا أنني لا أذكرها هنا لمدحها أو ذمها، بل فقط لتبيان أنها مؤثرة في الآلية. • في النظرية الرأسمالية يدير المال أصحابه أو من يوكلونهم. فمن هم أصحاب المال في صندوق تنمية الموارد البشرية وفي صندوق التأمينات الاجتماعية؟ لكن من يديره؟ لو أن صاحب المال أداره هل سيستعين بمستشارين؟ • الحافز الفردي والمخاطرة هما خلاصة الرأسمالية، من ينشئ مصنع أدوية ويخلق 400 وظيفة تعيل 400 عائلة ويخفف آلام ملايين المرضى لمدة 30 سنة قد يربح 500 مليون. ومن يحصل على صك أرض مليونية يبيعه فورا ويربح نفس المبلغ .هنا لا أتحدث عن أيهم أنفع أو صواب ذلك، فبالقطع هناك أسباب محقة قد لا نعلمها، فقط أتحدث عن تعطيل آلية الحافز الفردي للنظرية الرأسمالية. • الرأسمالية تحركها المنافسة ولا تفرق بين بر وفاجر. منتجان: الأول أنفق 90 مليونا من رأس المال العامل ليشتري أرض المصنع، والثاني بار بوالدته فاستجاب الله لدعائها فأتته أرض مصنعه مجانا، كيف يتنافسان في سعر المنتج؟ هنا سترتبك النظرية الرأسمالية أيما ارتباك؟
الدنيا نقاط ونطاقات • على القطاع الخاص مسؤولية اجتماعية ولكنه ليس مسؤولا عن المشكلات الاجتماعية التي لم يكن له فيها قرار، فأربعين سنة ومنذ طفرة السبعينات والدولة تقرر سياسة الاستقدام من أين وكيف وكم وبكم ولمن، ثم فوجئنا بالتزايد الأرنبي للمواطنين فشعر القطاع الخاص أن العبء ألقي عليه بالكلية، دون التشاور معه في أي نقطة، وما الدنيا إلا نقاط ونطاقات. • في النظرية الرأسمالية القطاع الخاص هو الاقتصاد. ولهذا يعطى الوقت الكافي والمتساوي للجميع ليعلم بالقرارات الاقتصادية والاتفاقات الدولية التي تؤثر في عمله. الرأسمالية لا تحب المفاجآت ولا حتى المفاجآت السارة. • الضريبة هي من أساسيات النظام الرأسمالي وليس هدفها الأساس تمويل الخزينة، بل لها هدفان أهم، هما توجيه الاقتصاد بتوجيه السياسية النقدية والسياسة المالية، والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية، لكن معضلتها أن الفقهاء الدستوريين، رحمهم الله، قالوا لا ضرائب بدون تمثيل نيابي، ليس لحبهم في التمثيل النيابي، بل لضمان توجيه الاقتصاد وتحقيق العدالة الاجتماعية. فمما يدعو إلى العجب أن الملكيات الشاسعة خارج النطاق العمراني لا تخضع للرسوم، فأتمنى أن تكون الضرائب القادمة في عكس فلسفة تلك الرسوم.
نظام التوازنات • النظام الرأسمالي هو نظام التوازنات ومما يساعد على توازن القوى هو وجود النقابات وهي مكون أساسي في ذلك النظام لخلق تلك التوازنات. لا رأسمالية بلا توازنات. • الرأسمالية تخلق الطبقة الوسطى، وتحتاج للطبقة الوسطى لتكون محركها. ولا فلاح لأمم رأسمالية تتآكل فيها الطبقة الوسطى بارتفاع شريحة صغيرة عنها وسقوط أفواج كثيرة منها. • الشركات المساهمة هي عماد الرأسمالية، وهنا وقفات كثيرة عن الشركات المساهمة، من آليات حساب علاوات الإصدار إلى دورها المأمول في نشر المنفعة وتحسين دخل صغار المدخرين. لكنني أكتفي هنا بالملكية وأثرها على القرار في الإدارة، فسابك مثلا شركة مساهمة قطاع خاص، ترى لو أن التصويت للإدارة فيها لم يكن بالوزن الترجيحي للملكية، بل باعتماد حد أقصى من الأصوات للمالك أتراها تشتري قطاع البلاستيك من جنرال إلكتريك ب11,9 مليار دولار أم بأكثر أو أقل؟ أم لا تشتريه أصلا؟ • النظام الرأسمالي لا يقدم الامتيازات إلا بشروطها ولمنفعة عامة فإن اضطر فللشركات مساهمة وليس للأفراد. لا امتيازات تعدين ولا امتيازات إنتاج أسمنت ولا امتيازات صيد البر والبحر. قالوا لا تعطه سمكة بل علمه كيف يصطاد السمكة. والرأسمالية تقول علمه كيف يصطاد السمكة ولا تعطه امتياز صيد تلك السمكة.
نظرية كينز • النظرية الاقتصادية الوحيدة التي تكاد تصدق دوما داخل المنظومة الرأسمالية هي نظرية كينز والإنفاق الحكومي المحفز للنشاط الاقتصادي. أما في معظم الدول البترولية فإن الإنفاق الحكومي ليس هو المحفز الاقتصادي فقط، بل هو الاقتصاد نفسه. وما يحدد ويوجه الإنفاق الحكومي كما نعلم هو الميزانية. وهنا نجد أن ميزانيتنا تتميز بميزتين: أولاهما أنها دوما ميزانية الخير، وثانيهما أنها من وزارة المالية إلى الصحف إلى دورة الاقتصاد دون المرور على ما يسمى بالسلطة التشريعية التي يمثل فيها أطراف القطاع الخاص. وأقول وبكل وضوح وتأكيد إنني هنا فقط أوصف حالة ولا أؤيد أبدا فكرة جهات الضغط أو اللوبيات من القطاع الخاص، فهي في الغالب تنظر لمصلحتها وليس لمصلحة المجتمع.
إنفاق اضطراري • رئة النظام الرأسمالي هي المنافسة، لذا فأي إنفاق اضطراري خارج نظام المنافسة في العطاءات يضرب الرأسمالية في مقتل ويدل على أن النظام معيق، ومن الأولى تطوير النظام بدلا من الاستغناء عنه. وشركات البترول دورها إنتاج البترول. هذه النظرية الجميلة ظاهريا تحرك منها القلب فكسرت مبادئها تحت ضغط الحرب الباردة فاهتمت بالجانب الاجتماعي وبالفقراء كما فعل أصحابها. ثم نكسوا رؤوسهم فقالوا لقد علمت ما هؤلاء يستحقون. فانتكست مكشرة عن أنيابها وتغولت في عهد تاتشر - ريجان فخرجت عن عقلها وانفلتت من عقالها، وسببت كارثة 2008.
نظام شديد الكفاءة خلاصة ما أقول إن النظام الرأسمالي بكل بشاعته وعيوبه فإنه شديد الكفاءة، فقط إن تحققت شروطه وأي اختلال قد يكون صالحا ومبررا في ذاته، إلا أنه كاختلال يعطل الآلية السحرية للنظام الرأسمالي. نسيت أن أقول إن بوتسوانا التي قلت إنها تتميز بأعلى نسبة نمو مذهلة وتتميز بأقل درجة فساد تتميز بشيء ثالث وهي أنها من أتعس المجتمعات، ففيها أعلى فوارق في الدخل بين الأغنياء والفقراء. ولا خير في نمو ينفع قلة من الأغنياء ويترك العديد من الفقراء- فمتوسط الدخل رقم لا قيمة له بدون عدالة توزيع ذلك الدخل. فكما نعلم فإن متوسط 49 و51 هو 50 وهو بالصدفة نفس متوسط 5 و 95. أخيرا وأعدكم بأنه آخر ما أقول هو أن النظام الرأسمالي يقوم على الملكية الفردية، أما الملكية العامة فقليلة جدا، لذا أحاطها بسياج مرعب من المساس بها. فيقول فلاسفة الرأسمالية إن من تمتد يده إلى المال العام أو الممتلكات العامة أو الأراضي العامة فإن نهاره أسود من ذيل غراب أسود سليل غرابين أسودين مفقوس من بيضة سوداء في مغارة عتماء في ليلة ظلماء. * ورقة عمل قدمت في منتدى جدة التجاري