الوقت واليوم: ظهر الجمعة الفائت. المكان: صيدلية المستشفى العام. الموقف: امرأة مسنة على كرسي متحرك وبجوارها عاملة منزلية، يأتي الاتصال بالجوال فترد العاملة بلكنتها الشرق آسيوية ثم تعطيه للعجوز المريضة التي تتحدث بصوت خفيض ومتعب، تقول وقد أعياها المرض: لقد قرر الطبيب بتر إصبعي.. لن آتي للمستشفى مرة أخرى، تتوقف عن الحديث ثم تواصل: لم يأت أحد ليأخذني من المستشفى، هل أجيء عندكم في البيت!، يأتي بعد لحظات وعلى عجل شاب صغير بزي رياضي، تنظر إليه العجوز فتفرح بمجيئه (شعرت وأنا أشاهدها وكأنها ضائعة خائفة في صحراء جرداء ثم لقيت أهلها بعد أن فقدت الأمل في رؤيتهم أو اللقاء بهم)، تدفع العاملة المنزلية كرسي العجوز المتحرك، (فأستمع للعجوز وهي تتحدث بصوت متهدج تخنقه العبرات بكلام غير مفهوم مفعم ببكاء مكتوم). كم هو مؤلم حقاً حين تشعر هذه المرأة المسنة بالجفاء من أقرب المقربين إليها، ويصل الألم إلى حد لا يمكن تحمله حين تكون تلك الجفوة وذلك التخلي بعد أن وهن العظم واشتعل الرأس شيباً. كيف نتصور أن يفقد أولئك الأبناء من الذكور والإناث الرحمة حين يتركون أمهم لوحدها في المستشفى مع عاملة منزلية طوال هذا الوقت وهي تعاني الأمرين مشاعر الضيم والوحدة وأعراض المرض المزمن، أإلى هذا الحد وصل العقوق في زمننا هذا؟! كيف لامرأة مسنة أن تتحمل هذا الجفاء وعدم الوفاء والعقوق بأن تترك وحيدة؟ بل كيف لقلب هذه العجوز المسكينة أن يتحمل صدمة قرار الطبيب ببتر أحد أصابعها وهي تستقبل القرار وحدها، لقد تملك الخوف المسكينة فلم تقدر إلا أن تقول انها لن تعود إلى المستشفى مرة أخرى. وكم هو صادم حد الوجع أن تقول وسهام الجروح الملتهبة تقطع نياط قلبها: لم يأت أحد حتى هذا الوقت ليأخذني من المستشفى، هل أجيء عندكم في البيت؟!، يا الله.. كم تعاني هذه المرأة المكلومة من العقوق ومن تجاهل وعدم اهتمام أقرب المقربين منها إذ يبدو أنها أوصلت للمستشفى وتركت مع العاملة المنزلية فمكثت فيه وقتاً طويلاً، ثم انظر كم تعاني من الشتات والضياع فليس لها فيما يبدو بيت يخصها يؤويها، وتأمل كثافة الرجاء المضمر ومستوى الطلب الخفي المضني وهي تسأل المتصل أو المتصلة في الجانب الآخر إن كان يقبل أو تقبل المجيء عندهم في البيت. أليس ذلك مؤلما حد البكاء؟! ما الذي يحدث بربكم؟! ألهذا الحد وصلت قسوة القلوب في بعض أفراد مجتمعنا؟ أهذا هو جزاء الأم التي حملت ووضعت وأرضعت وربت وأطعمت وسقت ونظفت وسهرت وبكت حتى إذا وصلت إلى أرذل العمر وبلغت من الكبر عتيا تركت لوحدها تعاني بقلبها الضعيف المنهك هذه الآلام والمصائب والأوجاع. في هكذا مواقف ليس ثمة حروف للختام فعمق التأثر والتأثير لا يترجم إلا بأحاسيس ومشاعر تبقى بالتأكيد عصية على القلم.