خرج الشعب العراقي في مظاهرات شبه دائمة منذ عام 2011، والتي تصدت لها الأحزاب الدينية في حينه، متهمة إياها مرة بأنها مطالب علمانية ولا دينية، بغية استثارة الناس البسطاء، وكي تمنح السياسي مبررات شرعية للقمع، غير أن القمع الإيراني كان مختلفا، عندما حددت الاسماء، وتم الاستهداف والقتل بالدم البارد لنشطاء مدنيين ومرجعيات وشيوخ عشائر، وكانت هذه الاحتجاجات، ضد الفساد، وضد الداعمين له في السلطة، وقد وجهت سهام الاتهام للاحزاب الدينية أولا، ولايران التي تضع فرمانات تحول دون اجراء اي تحقيقات مع كبار رجالات الفساد في العراق وعلى وزن نوري المالكي الذي يستعد لشراء أحد القصور في لبنان، بعد ان هرب كميات كبيرة من صفائح الذهب العراقي إلى مستودعات حزب الله. اليوم لم تجد ايران سوى السيد الصدر للقيام بمهمة تمثيلية، يسميها العراقيون ترفا، سياسة الخطوة خطوة باتجاه المنطقة الخضراء، احتجاجات هادئة منظمة وصامتة جدا، لأنها لا تنطق إلا عندما يبيح لها السيد بالنطق والحركة، وكي يبر بقسمه، لم يجد السيد بدا من دخوله شخصيا المنطقة الخضراء ليستقبله أحد القيادات الأمنية مقبلا يديه فاتحا أمامه الخضراء طولا بعرض، ليضع السيد خيمته، وفيها كافة المستلزمات، وليظهر السيد الجلال والوقار والمسؤولية، فيما المخرج الإيراني يظهر بأن الكرة في مجلس النواب، الذي سيضطر عند ضغط السيد الصدر إلى القبول ومنح حكومة حيدر العبادي التفويض اللازم لتشكيل حكومة تكنوقراط حسب ما يطالب به الصدر، وهي احدى التخريجات الايرانية للأزمة الداخلية، رغم ان كل هذه الاصلاحات، لن تؤدي الى تغيير مزاج الشارع العراقي، ورفضه تدخل ايران ورجال الدين في السلطة، ومطالبته بمحاكمة أركان الفساد. والسؤال.. هل هذه هي أحلام العراقيين، حكومة تكنوقراط، وأي تكنوقراط يمكن أن يقوم بواجباته والحكومة يبتلعها الفساد من القمة حتى الأسفل؟، وهل ستمكن حكومة التكنوقراط العراق للخروج من أزماته تلك، أم أن الذين يتصورون أن الأزمة يمكن تجاوزها بهذا التسطيح، يجهلون الحقيقة، او انهم يعترفون بالمشكلة لكنهم لا يرغبون بتقديم حلول حقيقية لها، وعندها، فان الأزمة لاتزال مستمرة. والملفت للاهتمام، ان وفدا ايرانيا يقيم في بغداد، استطاع خلال أيام الالمام بالمشكلة، عبر مشاركة مدير مكتب اطلاعات في العراق، والسفارة الإيرانية، وقادة الدعوة المحسوبين على ايران، وقد اعترفوا جميعا بانهم امام أزمة حقيقية، تنذر بتراجع الدور والنفوذ والتأثير الايراني، واشاروا الى ان قوة الازمة نابعة من اربعة معطيات رئيسة وهي اولا: ان الفساد الذي مورس لم يحقق الحد الأدنى التنموي لمناطق جنوبالعراق، وثانيا: ان الأزمة أعمق من أن تحل بحكومة تكنوقراط يمكن ان يشرك فيها بعض من طلب إليهم الدخول بين المحتجين لقيادة العملية التفاوضية عندما يحين موعدها، وثالثا: انهم يرون أن قوة الازمة ودافعيتها جاءت نتيجة لشعور قوى الاحتجاج بأن مرجعية السيستاني اقرب لهم ولتصوراتهم، إلا ان هذا الاحتمال ضعيف، ورابعا: ان قوى محسوبة على السفارة البريطانية والامريكية من تدير خيوط اللعبة للضغط على الحكومة لاجراء تغييرات جوهرية، ولايثقون كثيرا بالدور الذي يلعبه مقتدى الصدر على اعتبار انه محاولة لشرعنة مطالب قوى الاحتجاج وامتصاص نقمتها لصالح حكومة العبادي. غير ان لقاء تم بين الوفد الايراني وبعض القيادات الميدانية المقربة من التيار الصدري، اشارت إلى ان العملية السياسية وصلت إلى ذروتها، وانها لن تستطيع الاستمرار، وانها امام وضع حاد وحرج جدا، فاما ان تقدم على تحقيق جملة من التغييرات الاستراتيجية، أو انها حتما ستواجه بقوة من الشارع العراقي، وخلص الوفد الايراني الى الموافقة على احداث تغييرات كبيرة في الحكومة، لكنها طالبت بضرورة موافقتها على الاسماء المطروحة، وهذا ذروة ما يمكن ان تتوصل اليه ايران في هذه المرحلة، لكنها اشارت ايضا انها وعلى جميع المستويات لا يمكن ان تقدم تنازلات جوهرية يمكن على اثرها اضعاف قوتها ونفوذها في العراق. كما ان الوفد الايراني ناقش أمر الاحتجاجات والتظاهرات وانتقاد الدور الايراني في العراق، مع قادة الكتل الشيعية الرئيسة، واعادت ايضا بأن خروجها أو تراجع دورها في العراق سيكون كارثيا عليهم اولا، وانها لا ترضى بأن يتم التمادي عليها وقد قدمت الكثير للعراقيين، غير ان بعضا من رؤساء الكتل اشاروا إلى ان التوافق السياسي ونظام المحاصصة الطائفية لم يعد قادرا على الحياة، وان الامور تتجه بقوة الى ناحيتين وهما اما التفتيت واقامة كيانات مذهبية مختلفة، او اما تجاوز قانون التوافق السياسي باتجاه التوافق الوطني بين مختلف الشركاء، وكان مقتدى الصدر قد طالب بالغاء المحاصصة الطائفية، غير أن النبض الحقيقي لهذا الحراك، يتمثل في مشروع المرجع الصرخي للاصلاح الوطني، والذي يلقى قبولا وطنيا في العراق، ويعتبر مشروع قوى الاحتجاج وهو ما تحاول حكومة حيدر العبادي وايران، تجاوزه وعدم اظهاره للرأي العام، وابراز أن الحراك والاحتجاج صدري الطابع، وان مطالبه محدودة ويمكن التعامل معها. والبعد الآخر ان ايران وهي قد توافقت وتفاهمت مع الادارة الامريكية الحالية على العديد من النقاط، فان هذا لا يعني أن امريكا تفاهمت على منح ايران الضوء الأخضر لتعمل ما بوسعها في الشرق الأوسط، خاصة وان التقارير الاستخباراتية الامريكية تشير الى العنف المتصاعد في المنطقة وواحد من أسبابه الرئيسة الدور الايراني في العراق، والعملية السياسية التي بنيت على أسس طائفية، وان لا حلول ممكنة لمحاربة الارهاب، الا بمحاربة الأسباب الباعثة له، وتحديدا في العراق، حيث باتت الادارة الامريكية مقتنعة بأن الارهاب سببه ضعف العملية السياسية في العراق، والدور الطائفي لحكومة نوري المالكي وقوات الحشد الشعبي، وتنظيم داعش الارهابي، ومحاولات ايران تنفيذ اجندات خاصة في العراق. ويبدو أن الجانب الامريكي بات على قناعة كافية بضرورة التغيير في العراق لأمرين هامين الاول: ان العملية السياسية فقدت امكانية البقاء والتأثير السياسي والمدني، وأصبحت عبارة عن قوى وميليشيات، والثاني: ان هذا الامر سيدفع بسنة العراق لتكوين ميليشا خاصة بهم، تحت مسمى الحرس الوطني، وهو ما يرهب ايران، ويعزز عمليات التفتيت التي بدأت تجد لها صدى كبيرا في ايران، حيث بدأت ايران مطروحة على طاولة التقسيم أكثر مما مضى، ما دفعها للتوافق مع تركيا على دعم وتعزيز سيادة العراق وسوريا، خاصة في ظل مخطط كردستاني عراقي لاعلان الانفصال والاستقلال، وهو ما تخشى ايران تمدده باتجاهها. ضمن المعطيات اعلاه، فان ايران تحاول الاستجابة واستيعاب الحالة العراقية من الداخل وعن طريقها، ودون تدخل خارجي، لعل ذلك يكون بمثابة العلاج المرحلي، لازمة دولة ومجتمع، يطالب باستعادة هويته الوطنية وعروبته، فيما تحاول ايران منعه من ذلك، عبر سياسات التأجيج الطائفي، التي سقطت أمام أصالة العرب الشيعة في جنوبالعراق، وأمام المواطنين البسطاء الذين عرفوا وعلموا أن الاهداف والمطامع الايرانية، لا تقل ضراوة عما كان عليه الاستعمار في عهود سابقة، لا بل ان الدول الاستعمارية كانت لا تتدخل في تفصيلات المشهد الاجتماعي، إلا ان ايران تدخلت في كافة تفاصيل الحياة العراقية، وهذا ينم أولا عن فقدان الثقة، وثانيا ادراكها الحقيقي ان المجتمع العراقي لن يوالي لها مهما كانت القوة المفروضة عليهم، ولهذا تعمل عبر نظريات التفتيت الاجتماعي التربوي والثقافي والنفسي كسر الوحدة الثقافية والنفسية للمجتمع العراقي، لصالح خطاب إعلامي ثقافي يشرف عليه الحرس الثوري عبر القنوات الاعلامية لتحقيق شرخ كبير يفصل العراقيين عن وطنيتهم وهويتهم وعروبتهم، ويمهد اندماجهم النفسي والاجتماعي والثقافي بايران.