تثير "انتفاضة الصدر" -التي أطلقها الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر- استفهامات عديدة، تفضي إلى البحث عن "منتصر" في مواجهة "شيعية - شيعية" داخل العراق، لا يراهن عليها العراقيون كثيراً في تغيير جوهر العملية السياسية ووجهتها على صعيد وطني. الصدر، الذي بدأ انتفاضته ب"مهلة ال45 يوماً"، وأمهل فيها حكومة بغداد، التي يقودها حيدر العبادي، ل"إجراء إصلاح شامل" و"تشكيل حكومة تكنوقراط"، بات قاب قوسين أو أدنى من "اعتصام مفتوح" يطوق بوابات "المنطقة الخضراء"، التي تواري تحصيناتها "مشروعاً أمريكياً" يستهدف إعادة النظر في مجمل مجريات العملية السياسية. ودعا زعيم التيار الصدري العراقيين الى ان يبدأوا اليوم الجمعة اعتصاما امام بوابات المنطقة الخضراء. وقال الصدر في بيان اصدره مكتبه السبت الماضي: "أوجه ندائي التاريخي هذا لكل عراقي شريف" من اجل "بدء مرحلة جديدة من الاحتجاجات السلمية الشعبية (...) مرحلة تقومون بها بالاعتصام امام بوابات المنطقة الخضراء حتى انتهاء المدة المقررة اعني 45 يوما". وتقع المنطقة الخضراء الشديدة التحصين على ضفاف نهر دجلة وسط بغداد، وتضم مقار الحكومة وعددا من السفارات الاجنبية وابرزها سفارتا الولاياتالمتحدة وبريطانيا. وقال الصدر: "استعدوا ونظموا اموركم من اجل اقامة خيم الاعتصام السلمي فهذا يومكم لاجتثاث الفساد والمفسدين من جذورهم وتخليص الوطن من تلكم الشرذمة الضالة المضلة". وأضاف: "عليكم الرجوع في ذلك الى اللجنة المنظمة لذلك، الاعتصام الوطني السلمي وليبدأ من الجمعة القادمة بتوفيق من الله وبإسناد من الشعب". وكان عشرات الآلاف من أتباع التيار الذي يتمتع بشعبية كبيرة تظاهروا الجمعة الماضية وسط بغداد للمطالبة باصلاحات حكومية جوهرية ومحاربة الفساد، ليوم الجمعة الثالث منذ انطلاق موجة الاحتجاجات. وكان المقرر ان تقام تظاهرات الجمعة امام ابواب المنطقة الخضراء، لكن الصدر تراجع قبل ساعات وحول مسارها الى ساحة التحرير، بعد ان قدم رئيس الورزاء ليل الخميس الجمعة وثيقة الاصلاح الحكومي، التي تضم معايير اختيار وزراء تكنوقراط. خطوات الصدر، التي يصفها المراقبون ب"الانفعالية" أكثر منها "نهجاً مستداماً" لدى التيار الشيعي، تأتي في سياق عراقي بلغ "حافة الانهيار"، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فيما بقاء العراق موحداً بات على المحك، سواء لجهة إخفاق العملية السياسية في بناء نظام وطني يحتضن مختلف المكونات القومية والدينية والطائفية، أو لجهة الانهاك الاقتصادي العميق، الذي أقلق أخيراً واشنطن. القوى الوطنية العراقية بمختلف مشاربها، التي استطلعتها "اليوم" في العراق والأردن، لا تعول كثيراً على "انتفاضة الصدر"، رغم الشعبية الواسعة التي يحظى بها الزعيم الشيعي. يقول السياسي والقيادي الشيعي عبد الأمير أبو سما، وهو مسؤول عراقي رفيع: إن "الصدر والعبادي ولدا من رحم طائفي، انبثق عن العملية السياسية في مرحلة ما بعد احتلال العراق، وهما بعيدان تماماً في مواقفهما عن المصلحة الوطنية". ويتساءل أبو سما، في حديث ل"اليوم" عبر الهاتف، كيف لمقتدى الصدر أن يكون إصلاحياً فيما يُعتبر نوابه ووزراؤه، في العملية السياسية مِن "أفسد المسؤولين الحكوميين!"، وهو ما يتفق معه د. خليل الدليمي، محامي الرئيس الراحل صدام حسين. ويعترف الدليمي، في حديث ل"اليوم" بوجود "علاقة متوترة" بين الصدر والعبادي، بيد أنها "لا ترقى إلى خلاف جوهري"، فهما "شركاء في السلطة، ووزراء الصدر لا يقلون فساداً عن غيرهم". الدليمي، وهو سياسي سطع نجمه خلال محاكمات الرئيس الراحل، لا يعوّل كثيراً على انتفاضة الصدر، مشيراً إلى دور إيران في تحريك الرجل وتوجيهه. في وقت سابق، استدعى الرئيس الراحل صدام حسين والد مقتدى الصدر، وهو محمد صادق الصدر المرجع الشيعي العراقي، ودعم تياره الصدري لمواجهة الحوزة الايرانية وسعيها إلى الهيمنة على الشيعة العرب، وهو ما دفع بالابن إلى الواجهة كمرجعية شيعية عربية، رغم أنه لم يحظ باشتراطات المرجعيات الشيعية وفق فقه الحوزات. ويقدم اللواء زنون يونس، الذي يمثل وجهة نظر حزب البعث العراقي المُنحل، أمثلة عديدة على فساد تيار الصدر وكتلته في مجلس النواب العراقي، ويقول: "رئيس كتلة الصدر النيابية بهاء الأعرجي اختلس نحو 9.2 مليار دولار حينما شغل منصب رئيس لجنة النزاهة، فضلاً عن الضغوط التي مارسها على مدى ثماني سنوات لتمرير صفقات غسل الأموال عبر بنوك ايرانية أو مرتبطة بإيران". تقلبات الصدر اللواء يونس، في حديثه ل"اليوم"، أشار إلى "تقلبات الصدر"، واضعاً سياقها في إطار "رغبات طهران"، مبيناً أن "الصدر تلقى توجيهاً إيرانياً بالتحرك لمواجهة نوايا أمريكية بإحداث تغييرات في بنية العملية السياسية في العراق عقب الخلاص من تنظيم داعش، الذي يقرض مساحات واسعة من الدولة العراقية". ويتفق أبو سما مع ما ذهب إليه اللواء زنون يونس، ويقول: "إيران أبرقت إلى الصدر للبدء بتحركه، رغم أنها في وقت سابق سعت إلى تصفيته، كما فعلت مع والده، خاصة حينما برز كحالة جديدة في مواجهة التبعية الشيعية لطهران"، وهو ما يؤكده أيضاً د. الدليمي بقوله "طالما استخدمت طهران الصدر في مشروعها داخل العراق". ويستبعد الدليمي، شأنه شأن أبو سما واللواء يونس، أن يسعى الصدر إلى بناء تحالف مع القوى الوطنية أو السنية في العراق، مرجعين ذلك إلى اعتبارين، أولاً: الدور الإيراني في العراق، الذي يتحكم في مفاصل الدولة، وثانياً: طبيعة العملية السياسية التي قامت على التقسيم الطائفي والقومي. الإطاحة بالعبادي تتباين مواقف الأطراف العراقية حيال قدرة الصدر على الاطاحة بالعبادي، إذ يرى القيادي الشيعي أبو سما أن الأمر ممكن شريطة أن "يسير الصدر بخطى واثقة ووفق نهج وطني"، و"عدم إلقاء طهران بثقلها في المواجهة"، وهو ما يستبعده إذ "تخشى إيران انشقاقاً شيعياً يؤثر على مشروعها في العراق". في المقابل يقول د. الدليمي: إن "الصدر لديه شعبية واسعة في بغداد والنجف، وحواضن شيعية وسنية، باعتباره أهون الشّرين، فهو مرجعية عربية وليست فارسية"، ما يقود إلى "وجود ظرف موضوعي لديه يمنحه القدرة على الإطاحة بالعبادي". ويرى اللواء زنون يونس الأمر بعين سياسية، ويقول: "الصدر وإن امتلك القدرة على الاطاحة بالعبادي، فإنه لن يطيح به، لطبيعة موازين القوى في مجلس النواب العراقي". ويضيف "توزيعة القوى في مجلس النواب تفرض على الصدر عدم الاطاحة بالعبادي، وهو ما ظهر في اليومين الأخيرين خلال اجتماعات الكتل النيابية، وسعيها إلى ترشيح وزراء تكنوقراط للمشاركة في الحكومة". انقسام شيعي يتفق أبو سما والدليمي في اجابتهما على استفهام "اليوم" حول ما إذا كانت "انتفاضة الصدر" تعبيرا عن "انقسام شيعي"، ويقولان: إن "الانقسام الشيعي في العراق بات ضرورة، وبمثابة الحكم الواقع، رغم مساعي طهران إلى عدم ظهور هذا الانقسام بشكل فج أو علني". ويؤكدان أن "الانقسام موجود، إلا أن طرفيه يُظهران تماسكهما، خاصة في ظل الضغوط الإيرانية"، التي تملك أدوات محلية متجذرة تقود فعلياً الحكم في العراق. ويرجح اللواء زنون -رغم اعترافه بأن "الطائفة الشيعية في العراق لن تنقسم بوجود إيران"- أن "تشهد المرحلة المقبلة حرباً شيعية - شيعية، على خلفية المرجعية بين المرجعية العربية والمرجعية الفارسية". انتفاضة الصدر.. المستفيد إذن، من هي الجهة المستفيدة من تحرك الصدر؟، تتساءل "اليوم"، فيجيب عبد الأمير أبو سما، المنحدر من الطائفة الشيعية، بأنها "العملية السياسية". ويوضح أبو سما بالقول إن "بقاء العملية السياسية في العراق على جوهرها القائم هو مصلحة بين المكونات السياسية المشاركة في الحكم، وهي -دون غيرها- المستفيدة، إذ ستجدد ذاتها بنفس الأدوات التي أودت بها إلى هذا المنحدر". أما د. خليل الدليمي فيرى أن "تذبذب الصدر، وعدم ثبات ونضوج رؤيته السياسية، يحول دون تحقيق انتفاضته لغايات وطنية جمعية"، وبالتالي "الانتفاضة -حال ثبات الصدر- قد تفيد المجتمع العراقي برمته". ويرفض الدليمي التعويل على تحرك الصدر، الذي يراه اللواء زنون يونس بأنه يشكل "مصلحة خاصة للصدر" دون غيره، فيما "من سيجني الثمار أخيراً هي إيران". اعتصام «الخضراء» المراقبون، شأنهم شأن الفرقاء السياسيين، إذ يتخذون مواقف متقاربة حيال دعوة الصدر لأتباعه إلى الاعتصام الجمعة أمام "المنطقة الخضراء"، التي تعتبر مركز الحكم في العراق، وبناء خيم أمام بواباتها. يقول أبو سما: "سنكون مضطرين، كقوى وطنية عراقية، إلى دعم اعتصام التيار الصدري أمام المنطقة الخضراء"، لكننا لا نعوّل عليه كثيراً؛ "لما خبرناه عنه من تذبذب وتقلب"، مستدركاً "إذا انحازت القوى الوطنية العراقية لصالح الاعتصام أمام المنطقة الخضراء فهذا يمكن أن يخرج بنتائج مهمة". ولفت أبو سما إلى "تبرّم اتباع الصدر من تقلباته"، مبيناً أنه "سعى -أي الصدر- إلى مراعاة الأمر في قبوله تقسيم المتظاهرين بين ساحة التحرير والمنطقة الخضراء". ويشكك الدليمي بمدى ثبات الصدر على تحركه، وما إذا كان ينوي صادقاً الاطاحة بالعبادي، إلا أنه يقول "نريد أن يثبت الصدر على قرار التخييم أمام المنطقة الخضراء". سيناريوهات وفي إطار توقعاتهم للسيناريوهات المحتملة ل"انتفاضة الصدر"، يقول أبو سما: إن "الصدر وضع سقفاً لتحركه، وهو تغيير الوزارة، واستبدال الوزراء بآخرين تكنوقراط، لكن هذا لن يفيد العراق، ولن يقدم أمراً جوهرياً، فدون إزاحة العملية السياسية برمتها، وبناء أخرى بديلة، لن ينجو العراق". ويضيف: "بناء عملية سياسية جديدة في العراق يستدعي دعماً عربياً وإقليمياً للقوى الوطنية العراقية، بما يبني الوطن العراقي مجدداً، أما التعويل على تحركات فرعية فلن يصب في مستقبل العراق المأمول". أما د. خليل الدليمي فيرى أن "السيناروهات المستقبلية رهن تحرك الأطراف الأخرى، وتحديداً حزب الدعوة وتيار الحكيم، فهما قادران على الضغط على الحكومة لدفع العبادي إلى تقديم تنازلات للصدر". ولا تخرج توقعات المرحلة المقبلة عند اللواء زنون يونس عما ذهب إليه أبو سما والدليمي، مبينا أن انتفاضة الصدر "ستفضي إلى توافقات شكلية، وتغييرات في الحكومة لا أكثر". الصدر يتحدث خلال مظاهرة احتجاجية ضد الفساد في 26 فبراير لقاء سابق بين الصدر والعبادي