كثر الحديث في الأسابيع القليلة الماضية عن «الفيدرالية» كأداة لتسوية الأزمة السورية. ويبدو أن فصائل كردية بعينها تتبنى الفيدرالية رسميا باعتبارها الوسيلة الوحيدة ليس فقط لتسوية الأزمة السورية ولكن لتسوية أزمات أخرى مشابهة في المنطقة، بل ولإعادة ترسيم المنطقة من جديد على اسس تعتقد أنها أكثر رسوخا وموضوعية. والمثير في الأمر أن بعض كتاب الأعمدة في عدد من الصحف العربية عبروا مؤخرا عن مخاوفهم من ان تكون الولاياتالمتحدة وروسيا قد توصلتا بالفعل إلى تفاهم لتسوية الأزمة السورية على هذا الأساس، وأنهما اتفقا بالفعل على التعاون معا لدفع الأمور في هذا الاتجاه. دعونا نتفق أولا على أن المشكلة ليست في الفيدرالية كمفهوم علمي أسهم في بناء العديد من الدول الفيدرالية القوية والمزدهرة، كالولاياتالمتحدة وكندا وألمانيا وسويسرا وغيرها. فالفيدرالية، كمفهوم علمي، تعني توزيع السلطة بين الحكومة المركزية (أو الفيدرالية) وحكومات الأقاليم، مع احتفاظ الحكومة المركزية منفردة بسلطة تشكيل القوات المسلحة، وصياغة السياسة الخارجية، وإصدار العملة، مع الأخذ في الاعتبار أن تقسيم الأقاليم في الدولة الفيدرالية يقوم على جغرافية وإدارية، وليس على أسس طائفية أو ديمغرافية، ويستهدف تمكين المناطق المختلفة من التعبير عن هوياتها وخصوصياتها الثقافية والاجتماعية بشكل افضل، أي الحفاظ على التنوع في إطار الوحدة. أما الفيدرالية التي تطرح كحل للحروب الأهلية المشتعلة في العالم العربي حاليا فهي «فيدرالية طائفية» لا علاقة لها بالفيدرالية العلمية وتشكل غطاء لتفتيت العالم وتكريس انقساماته وتعميق فكرة أن الصراعات السياسية والاجتماعية المحتدمة فيه هي صراعات دينية وطائفية، وبالتالي تستبعد فكرة الدولة الموحدة القائمة على أساس المساواة في المواطنة واحترام القانون. لذا أعتقد أن المشاريع «الفيدرالية» التي تروج لها الآن بعض الأوساط ليست سوى طبعة جديدة منقحة من مشروعات تفتيت الوطن العربي، خاصة تلك التي تتبناها أوساط صهيونية. لذا ربما يكون من المفيد هنا أن أعيد التذكير بواحد من هذه المشروعات الذي ظهر إلى حيز الوجود في بداية الثمانينيات، وسبق لي أن كتبت عنه سلسلة من عدة مقالات نشرت عام 2007 في صحيفة «الدستور» الأردنية وتداولتها عدة مواقع إلكترونية. ففي فبراير من عام 1982 كتب أحد الدبلوماسيين الإسرائيليين السابقين، ويدعى أوديد ينون، دراسة باللغة العبرية نشرت في مجلة «كيفونيم» تحت عنوان «استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات»، وقامت رابطة الخريجين العرب في الولاياتالمتحدةالأمريكية بتكليف إسرائيل شاهاك بترجمتها إلى الإنجليزية، ونشرت الترجمة الانجليزية تحت عنوان: «الخطة الصهيونية للشرق الأوسط «The Zionist Plan for the Middle East، مصحوبة بمقدمة وخاتمة كتبها إسرائيل شاهاك نفسه. وفي سلسلة المقالات التي قدمت فيها تحليلا معمقا لهذه الدراسة، شرحت الأسباب التي دفعتني للاعتقاد بأن خطة «ينون» تعبر بدقة عن حقيقة ما يدور داخل العقل الصهيوني حول مستقبل المنطقة، وقمت بتوضيح تفاصيل هذه الخطة التي استهدفت تفتيت العالم العربي كله، حيث خصصت مقالة منفصلة لخطة تفتيت مصر، ومقالة ثانية لخطة تفتيت المشرق العربي، ومقالة ثالثة لخطة تفتيت منطقتي المغرب العربي والخليج. وأود هنا تذكير قارئ صحيفة «اليوم» بما كتبته عن خطة تفتيت المشرق العربي لأنه يتصل اتصالا وثيقا بالحديث الدائر هذه الأيام حول تسوية الأزمة السورية، وما جرى للعراق قبل ذلك وما قد يحدث مستقبلا لكل من لبنانوالأردنوفلسطين. فيما يلي نص ما جاء بالمقالة المشار إليها حول هذا الموضوع: «يقصد بالمشرق العربي هنا المنطقة التي تضم ما تبقى من أراض فلسطينيةوالأردنولبنانوسورياوالعراق. وإذا كان اهتمام الحركة الصهيونية بتفتيت الدول أو المناطق العربية الأخرى يعود إلى اعتبارات يغلب عليها الطابع الأمني أو الاقتصادي، فإن اهتمامها بتفتيت دول المشرق العربي يعود إلى اعتبارات يغلب عليها الطابع الوجودي والحيوي. لذا لا تكتفي المخططات الصهيونية هنا بالتطلع إلى التفتيت وإعادة رسم الحدود، لكنها تشمل التمدد الجغرافي والاستيلاء على أراض جديدة واستيطانها تمهيدا لضمها، كما تشمل القيام بتغييرات ديموغرافية واسعة النطاق، بما في ذلك التهجير القسري للسكان. ومن الواضح أن رؤية ينون للمشرق العربي في الاستراتيجية التي يقترحها ترتبط ارتباطاً عضوياً برؤيته لطبيعة الدولة اليهودية وحدودها، وفي سياق هذه الرؤية يعتقد ينون أنه لا مجال للتمييز بين حدود 1948 وحدود 1967، لأن المهم بالنسبة لإسرائيل هو أن تكون حدودها آمنة، بصرف النظر عن موقع هذه الحدود على الخريطة. الحدود الآمنة في مفهوم «ينون» هي الحدود التي تمكن إسرائيل من السيطرة على كل المنطقة الواقعة «بين النهر والبحر». والمقصود هنا ليس مجرد السيطرة العسكرية أو الهيمنة السياسية والاقتصادية، وإنما التجذر الديموغرافي، أي من خلال التواجد السكاني لليهود والذي بدونه لن يكون لإسرائيل أي مستقبل من المنظور الاستراتيجي. هذا الفهم الخاص جدا للحدود الآمنة هو الذي يحدد موقف ينون من قضية التسوية مع العرب. فهو يرفض تماما أي تقسيم للأرض أو حتى منح الفلسطينيين حكماً ذاتيا، لأنه يرفض وجودهم أصلًا على أي شبر من «أرض إسرائيل». من هنا معارضته التامة لاتفاقيات كامب ديفيد ولكل المشروعات الإسرائيلية التي تتحدث عن التقسيم أو الحكم الذاتي. ولأنه يعتقد أن التركز السكاني لليهود في المناطق الساحلية، التي يقطنها حاليا حوالى 75 في المائة من إجمالي السكان، يشكل خطرا استراتيجيا كبيرا على أمن إسرائيل، يطالب بتبني سياسة سكانية تركز على السيطرة على المصادر المائية الممتدة من بئر سبع حتى الجليل الأعلى واتخاذ الاجراءات الضرورية لتأهيل المناطق الجبلية لتصبح قابلة للاستيطان تمهيدا للقيام بعملية هندسة ديموغرافية واسعة النطاق، لإعادة توزيع السكان بما يتناسب مع متطلبات الأمن للدولة اليهودية على المدى الطويل. ويبدو واضحا تماما من هذا الطرح أن متطلبات أمن إسرائيل، وفقا لهذا التصور، لا تعني سوى شيء واحد، وهو إخلاء المنطقة الممتدة من البحر إلى النهر من السكان العرب، بمن فيهم عرب 1948. هل معنى ذلك أن ينون لا يعترف بوجود شعب فلسطيني أو بحقه في تشكيل دولته المستقلة؟ لا، على العكس، فهو يعترف بوجوده وبحقه في إقامة دولته المستقلة لكن خارج نطاق حدود إسرائيل الآمنة، أي في المنطقة الواقعة وراء الضفة الأخرى لنهر الأردن!.. لذا لم يكن من المستغرب أن يدعي ينون أن الأردن هو فلسطين، وفلسطين هي الأردن، وأن عمان لا تقل فلسطينية عن نابلس. يكفي إذن تمكين الأغلبية الفلسطينية من السيطرة على مقاليد الحكم في الأردن لتصبح هناك دولة فلسطينية وتحل «القضية» التي فشلت حكومات إسرائيل المتعاقبة في التعاطي معها! وبهذه البساطة الفجة لا يتردد ينون في التضحية بأكثر الأنظمة العربية اعتدالًا في المنطقة، لا حباً في الفلسطينيين، لكن اعتقاداً منه أن تمكينهم من السيطرة على الدولة الأردنية يحل مشكلتهم ويحملهم على القبول بالأردن وطناً بديلاً لكل الفلسطينيين بمن فيهم «عرب 48»!.. ومن المنظور العربي قد يبدو مثل هذا الطرح نوعا من الهرطقة لكنه يعكس، من المنظور الصهيوني، رؤية التيار الأكثر عمقاً وتأثيراً في الفكر وفي تاريخ الحركة الصهيونية في الواقع. ولأن ينون يدرك إدراكاً واعياً أن هذا «الحلم الصهيوني» غير قابل للتحقيق إلا على جثة الدول العربية القوية أو المركزية، فقد كان من الطبيعي أن يحاول الإيحاء بأن جميع الدول العربية، التي تبدو في ظاهرها كبيرة أو قوية عسكريا، بما في ذلك مصر، قابلة للانهيار والتحلل إلى مكونات صغيرة وضعيفة، وبالتالي لا يمكن أن تشكل تهديدا لإسرائيل على المدى الطويل. أما بالنسبة للبنان فإن ما جرى له عند نشر دراسته (1982) جعل ينون مطمئناً تماماً إلى هذه النتيجة. فلبنان كان فى ذلك الوقت، وبفعل الحرب الأهلية المستعرة فيه منذ منتصف السبعينيات، مقسما إلى خمس مناطق تقف على رأس كل منها سلطة شبه سيادية، الأولى: مسيحية فى الشمال، وتتزعمها أسرة فرنجية، التى تؤيدها سوريا، والثانية: فى الشرق وتقع تحت الاحتلال السورى المباشر، والثالثة: مسيحية فى الوسط تسيطر عليها «القوات اللبنانية» المسيحية، والرابعة: بمحاذاة نهر الليطانى وتسيطر عليها منظمة التحرير الفلسطينية، والخامسة: فى الجنوب المحاذى لإسرائيل ويسيطر عليها الرائد سعد حداد، رغم أغلبيتها الشيعية. ومن الواضح أن ينون كان على قناعة تامة بأنه بوسع إسرائيل تحويل لبنان إلى خمس دويلات طائفية إذا نجحت فى كسر منظمة التحرير الفلسطينية عسكرياً، وفى إضعاف الوجود السوري هناك وهو ما جرت محاولته فعلًا عندما أقدمت إسرائيل على غزو لبنان بعد أشهر قليلة من نشر الدراسة. وإذا كان لبنان يبدو دولة منتهية فى ذلك الوقت، فإن سورياوالعراق كانتا تثيران القلق بسبب قوتهما العسكرية، ومع ذلك فقد بدا ينون مطمئناً تماماً إلى أنهما مرشحتان بدورهما للانهيار بسبب عوامل التحلل والتفتت الكامنة فى بنيتهما السياسية والاجتماعية. فقد اعتقد أن سوريا لا تختلف، من المنظور الطائفى، كثيراً عن لبنان، رغم وجود نظام عسكرى قوى فيها لأنه نظام تسيطر عليه أقلية لا تتجاوز 12 فى المائة من السكان، وبالتالى لن يكون باستطاعته أن يحتوى المعارضة السنية القوية. ولأنه اعتقد أن لبنان سيتفكك رسمياً لا محالة خلال فترة قصيرة، ربما لا تتجاوز شهوراً عدة، توقع ينون أن سوريا ستتبعه حتما على الطريق نفسه، ولن يكون بوسعها أن تقاوم طويلا تلك العملية التاريخية الحتمية. أما فيما يتعلق بالعراق، فقد اعتقد ينون أن تركيبته الطائفية لا تختلف كثيرا عن الدول المحيطة به: أقلية سنية تسيطر على النظام السياسى وتوجهه إلى حيث تريد، وهو أمر لن يكون بوسع الأغلبية الشيعية أو الأقلية الكردية أن تقبل به على الدوام، ولولا ما يتمتع به النظام الحاكم من قوة عسكرية وموارد نفطية كبيرة لما أصبح حال العراق أفضل كثيرا من حال لبنان من قبل أو حال سوريا. ومع ذلك اعتقد ينون أن المستجدات التى طرأت على الوضع الإقليمى، خصوصاً بعد اندلاع الثورة الإسلامية فى إيران ونشوب الحرب العراقية- الإيرانية، تدفع فى اتجاه تعميق التناقضات الطائفية، وربما تؤدى إلى اندلاع حرب أهلية، وبدا واضحاً أن ينون يتمنى اندلاعها فى أقرب وقت بل ويستعجلها. ولأنه كان يدرك أن قوة العراق العسكرية تشكل تهديداً استراتيجياً خطيراً على أمن إسرائيل، فلم يكن على استعداد لقبول تسامح إسرائيل مع استمرار وضع كهذا، لكنه بدا مطمئناً وعلى ثقة تامة من أن العراق لن يخرج من حربه مع إيران معافى، وأن ضعفه المحتمل سينتهى به فى الأحوال كافة إلى التفتت إلى ثلاث دويلات، على الأقل، إحداها سنية فى الوسط والأخرى شيعية فى الجنوب والثالثة كردية فى الشمال». هذا ما كتبه ينون، الدبلوماسي الإسرائيلي، عام 1982. فهل تصدقون؟