مزايا الأحساء عديدة، جعلت لها مكانة اقتصادية مميزة على مدى القرون. جانب مهم من تلك المزايا نتجت عن عاملين أساسيين: الاستدامة والتنافسية؛ أما الحذق في التنمية المستدامة فيتضح من رعاية الموارد ولا سيما الماء، فكل قطرة كانت تستخدم استخداماً يكاد أن يكون "أمثلياً" (optimal) من حيث الحرص على عدم الاغداق بل اتاحته بالقدر الكافي دون زيادة سواء للسقاية أو الري، وكذلك اللجوء إلى التدوير (إعادة الاستخدام) عندما يكون ذلك متاحاً ومقبولاً، ولذا تمددت البقة الزراعية مع مرور الوقت (وهذا هو التحسين المستمر)، فتزايد عدد النخيل المنتجة باتساق وتؤدةٍ، دون جَور على محزون المياه الجوفية أو ارتباك في كيف يسوق المحصول ويباع، رغم أن انتاج الواحة من التمور كان هو الأغزر والأجود والأعز مطلباً مما لا مجال لمنافسته. والحديث هنا ليس لاجترار الماضي، بل لبيان أن التنافسية سجية في الاقتصاد المحلي لمحافظة الأحساء، فهي ليست أمراً طارئاً. أي نعم، في وقتنا الراهن أخذت الآبار تنتشر و"تشفط" المياه لأغراض ترفيهية وثانوية وليست بالضرورة اقتصادية وقد لا تعبأ بأدنى مقاصد الاستدامة، ودون عظيم اكتراث لاستنزاف المخزون المائي. وأي نعم، في وقتنا الراهن أخذت البقعة الزراعية التقليدية تنحسر نتيجة لجور البنيان؛ فالمكسب المادي لتشييد بناءٍ على الأرض الزراعية يفوق العائد من رعاية نخيلات قليلة!. في يومنا هذا تعقد غرفة الأحساء بالشراكة مع أرامكو السعودية منتدى الأحساء للاستثمار في وقت مميز بالفعل، حيث تشهد مملكتنا الغالية تحديات اقتصادية نتيجة لتراجع إيرادات النفط من جهة، والرغبة المتنامية للتحول لاقتصاد متنوع لا يعتمد على مصدر أحادي. وبالقطع، فالجميع يدرك أن هذا المطلب (أي التنوع الاقتصادي) لازمنا لما يزيد على 45 عاماً، منذ انطلاقة الخطة الخمسية الأولى، ومع ذلك فيبدو أن السعي الراهن هو لتحقيق تحول يستوفي هدفين اثنين: تنويع الاقتصاد من حيث توليد القيمة المضافة للناتج المحلي الإجمالي من جهة، وفي نفس الوقت تنويع مصادر تمويل الخزانة العامة بما في ذلك: الخصخصة، وخفض الدعم، ورفع كفاءة الانفاق العام، وتحسين عوائد الاستثمار. ويمكن القول إن الأحساء في طليعة محافظات سعودية تمتلك المزايا والموارد والمواهب لتساهم في التنويع الاقتصادي، سواء في النشاط الزراعي، وهو حرفتها المقترنة بها لسنين طويلة، أم في القطاع الصناعي النفطي وغير النفطي، باعتبار مزاياها النسبية: فيما يتصل بالطاقة واللقيم، وموقعها الجغرافي على الخليج العربي وبالتالي سهولة الاستيراد والتصدير، وقربها من شرق آسيا التي تمثل الشريك التجاري الأبرز للمملكة، وبما يهيئ لها فرصا حقيقية في نشاط الخدمات اللوجستية وسلاسل التزويد، ولما يتوفر لها من موارد بشرية مواطنة راغبة في العمل. ويمكن بيان أن المزايا التي تتمتع بها الأحساء بحاجة إلى تحسين متواصل لمناخ الاستثمار، بما يُمكن الأحساء من استقطاب مستثمرين في العديد من الأنشطة الاقتصادية الواعدة، في مجالات الزراعة والتصنيع الزراعي والخدمات الصحية والتعليمية والصناعة التحويلية والسياحة والصناعة التقليدية والخدمات اللوجستية. وتحسين مناخ الاستثمار ضرورة لا فكاك منها، لا سيما أن الأحساء دأبت تُصدر اليد العاملة للمناطق الأخرى نتيجة لشح الفرص المواتية لخريجي المعاهد والكليات والجامعة. ويأتي الحديث عن تحسين مناخ الاستثمار، في وقت تتجه فيه الأنظار لتنمية قدرة القطاع الخاص السعودي على المنافسة، بما يمكنه من التصدير من جهة والاحلال محل الواردات من جهة أخرى، وفي ذات الوقت الاتجاه للأنشطة الاقتصادية غير التقليدية؛ مثل الصناعات المعرفية، ولا سيما تلك المتصلة ب"الرقمنة"، والاستغلال الأمثل لوجود جامعة وطنية رئيسية في الأحساء بما يساعد في الربط بين مخرجات الجامعة والاقتصاد المحلي، ليس فقط على مستوى توفير الموارد البشرية بل كذلك لعقد شراكات تقنية رائدة واحتضان الرواد الشباب من الطلاب ومن المجتمع ومساندة القطاع الخاص في خدمات وأنشطة البحث والتطوير. وتحسين مناخ الاستثمار ليس مشروعاً اعتيادياً له تاريخ بداية وانتهاء، بل هو جهد مستمر لا ينتهي، لسعيه إلى الارتقاء المستمر بتنافسية الاحساء، تعزيزاً لقدرتها على استقطاب المستثمرين والمبدعين والرواد، ولن يتحقق ذلك إلا بجهد مُنَسقٍ يرتكز إلى تسهيل تسجيل وترخيص بدء المشاريع التجارية والصناعية والخدمية في الأحساء، وإثراء الفكر الريادي لا يكون نخبوياً بل ليصبح حالة شائعة عامة لكل من يرغب أن يُنتج، وأن يُبدع، وأن يأخذ فكرته إلى آفاق جديدة لتصبح فرصة تحقق: له (أو لها) نجاحاً، وللأحساء قيمة مضافة، وللوطن برمته تنوعاً اقتصادياً وتوظيفاً حاذقاً لموارده البشرية وامكاناته الاستثمارية. كيف لجهود تحسين مناخ الاستثمار في الأحساء أن تتضافر؟ السؤال مهم، والإجابة غير مستعصية في واحةٍ تمتلك: دعما حكوميا متناميا، وقامات وطنية سامقة، وإمكانات متنوعة، ووعيا و"سيرة ذاتية" ضاربة في أعماق التاريخ للإنتاج والحذق الاقتصادي. وحتى على النسق الاجتماعي، فقد تجاوزت الأحساء منذ زمن ما قد يُعَبر عنه في أماكن أخرى تحت عنوان "ثقافة العيب في العمل"، ففي ثقافتنا هنا العمل المَعيّب مرتبط إجمالاً بأمرين اثنين: التعاطي بما حرمه الله سبحانه، أو التكسب بما يلحق ضرراً مقصوداً بالناس. كل هذا يمكن تلخيصه في استهداف الفرص، ولكن أي فرص؟ خيط البداية لا يتجاوز التوظيف الأفضل للمورد الأهم، وهو المورد البشري، بأن تُستقطب استثمارات توفر فرصاً وظيفية محلية للباحثين عن عمل، وتوفر احتضاناً وتمويلاً مبدئياً للرياديين والمبدعين الجادين، وترعى المنشآت الصغيرة والأسر المنتجة، فرعاية وتوظيف الموارد البشرية هي دائماً المرتكز هنا وفي حواضر اقتصادنا الوطني كافة.