من الوظائف التي لا نعرفها في ثقافتنا وليست جزءًا منها حتى الآن للأسف الشديد وظيفة مراجع الكتب؛ أي الشخص الذي يقوم بقراءة الكتب الجديدة وكتابة مراجعات وقراءات نقدية عنها لتنشر في الصحف اليومية والملاحق والمجلات المتخصصة بمراجعات الكتب. وهذه أيضًا، أي المجلات المتخصصة بمراجعات الكتب، من الأمور التي نفتقدها بطبيعة الحال. ولا حاجة بنا هنا أيضًا أن نشير إلى أن كل ذلك يدل دلالة واضحة وقاطعة على ضعف ثقافة القراءة والاهتمام بالكتاب لدينا. تصور أنك تكتسب معيشتك من قضاء الساعات الطوال كل يوم في قراءة الكتب والكتابة عنها! شخصيًا طالما حلمت بأن تكون لي صلة ولو من بعيد بهذه الوظيفة التي ليست حتى الآن سوى حلم من أحلام اليقظة، أو التي «تراود الموهوم في الحمى»، إذا ما استعرت عبارة صديقنا الشاعر والمترجم ومحب الكتب أيضًا، غسان الخنيزي، ويبدو أنها ستبقى كذلك، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً. يكتب مايكل ديردا، مؤلف كتاب (التصفح: عام من قراءة الكتب وجمعها والعيش معها)، مراجعات الكتب لصحيفة (الواشنطن بوست) المعروفة، وهو ناقد أدبي متخصص في كتابة مراجعات الكتب، وقد سبق له الفوز بجائزة البوليتزر العريقة في هذا المجال تحديدًا. ما يقدمه ديردا في هذا الكتاب هو خلاصة قراءاته خلال عام كامل من الكتب، كتب الأدب تحديدًا، انطلاقًا من اهتمامات الكاتب ومجال تخصصه. هو كتاب عن الكتب، إذن، ولا شك أن عشاق الكتب ومحبي الأدب سيجدون بغيتهم، أو قدرًا كبيرًا منها على أقل تقدير بين دفتيه. ولكونها قد نشرت من قبل في وسيلة صحفية، وإن كانت إلكترونية، فإن الطابع الصحفي والمنحى الشخصي يغلبان عليها، دون أن يعني ذلك بالضرورة الخفة المعرفية أو انعدام الموضوعية في الحكم على الأعمال التي تخضع لمبضع الناقد الذي يكتب بعيدًا عن جفاف وتجهم لغة النقاد الأكاديميين. يكتب ديريدا كمن يتحدث إلى مجموعة من الأصدقاء في حوار حميم لا يخلو من الظرافة والمتعة والتشويق، فضلًا عن المعرفة والتعطش لمعرفة وقراءة المزيد. فيما يلي نقدم للقارئ الكريم ترجمة لمقدمة الكتاب الذي نشر في صيف 2015م: بين فبراير 2012م وفبراير 2013م أسهمت بمقالة كل يوم جمعة في موقع (ذا أمريكان سكولار). ولم تكن لدي قيود بعينها حول ما أكتب عنه، مع أنه كان يُتوقع أن يكون العمود الذي أكتبه ذا طابع أدبي وذاتي. في بادئ الأمر قيل لي إن كل مقالة ستحتوي على قرابة 600 كلمة ولكن، وبسبب جنوحي للثرثرة، سرعان ما تضاعف عدد الكلمات ومن حين لآخر كان يتضاعف ثلاث مرات. منذ البدء خططت لكتابة مقالات «التصفح» هذه لمدة عام واحد، ثم أتوقف. وهذا ما فعلته. احتفظت باسم التصفح كعنوان لهذه المجموعة، رغم أن ذلك نوع من الخطأ في التسمية. وعوضًا عن تسجيل «مغامرات روحٍ بين الروائع»، سرعان ما جنحت للحديث بإسهاب، وآمل أن يكون بشكل ممتع، عن الولع بالكتب ذاته. وهذه المقالات في حقيقة الأمر مقالات ذاتية إلى حد بعيد، فهي تأملات متعرجة لسيباريسي مولع بالأدب. وتتنوع المقالات ذاتها بشكل واسع في مواضيعها، ونادرًا ما تلتزم بعناوينها المحددة. ومن خلال مراجعتي لها، لاحظت وجود بعض الأسماء المتكررة، والإشارات المؤرخة إلى مناسبات معاصرة، ولكنني اتخذت قرارًا بالإبقاء عليها كما هي. ومع ذلك فإنني قد قمت بتصحيح الأخطاء الصغيرة، وأحكمت كتابة الجمل وأضفت، في حالة أو حالتين من الحالات، بعض المعلومات المفصلة. ولكن هذا هو كل شيء. أتمنى أن ينجح (التصفح) في إضفاء شيء من المعنى في حياة مشتغل بالصحف الأدبية قدر له أن يقع في غرام الكتب. كما أتمنى أن يشجع القراء على البحث عن بعض العناوين التي ذكرتها أو ناقشتها. وأرجو من القارئ أن يضع في حسبانه أن هذه مقالات خفيفة، قصد منها أن تكون مسلية. هي ليست ذات طابع طريف على وجه التحديد، ولكنها تحتوي على بعض الطرائف، والكثير من الإشارات والمقتطفات، فضلًا عن التلاعب بالكلمات. وبين الفينة والأخرى تنتابني موجة من التشدق، وأحيانًا أقوم بإعداد قوائم، وفي بعض الأحيان أصف أمثلة لحظي السيئ في المناسبات والمؤتمرات الأدبية. ولكنك على مدى صفحات الكتاب، كما أظن، ستتعرف على الصوت ذاته. وإذا ما أحببت ذلك الصوت، فإنك على الأرجح ستحب هذا الكتاب. ولكن اسمح لي بأن أقدم توصيتين اثنتين: أولاً، لا تقرأ أكثر من مقالتين أو ثلاث في جلسة واحدة. اجعل بينها مسافة زمنية. بهذه الطريقة سيستغرق (التصفح) وقتًا أطول للوصول وستستمع بكل مقالة أكثر. ثق بي بهذا الشأن. ثانيًا، ضع في اعتبارك أن تقرأ المقالات في نفس الترتيب الذي تظهر فيه. كل مقالة قائمة بذاتها، ولكنني وضعت نصب عيني أن أقدم مجموعة متنوعة ترضي القارئ في اختياراتي وموضوعاتي، بالإضافة إلى غرس بذور الاهتمام الموسمي بالسلسلة ككل متكامل.