الكتابة تقنية واستراتيجية للتعبير. تحاط عمليتها بتاريخ من القراءة وطموح جامح من طرف الكتاب للاستقلال عن تأثيرها. جينيالوجيا الكتابة عوالم من الكلمات والأسرار، من التجلي والإضمار. وفي إطار تدوين تاريخ الكتابة وسيرة الكاتب، اقتربنا من مجموعة من الأدباء والأديبات، ففتحوا لنا قلوبهم في هذه الحوارات الشيقة.. وهذا حوار مع الكاتب السعودي عبدالله السفر: ما هو نصك الأول المنشور؟ وكيف تنظر إليه الآن؟ للأسف، لا أذكر في هذه اللحظة النص الأول. لكني لا أنسى كتابته على الآلة الكاتبة التي اقتنيتها في أوائل الثمانينيات، ولا أنسى التوقفات ولا التلعثمات في ولادة الجمل ولا الشطب والمحو بالمزيل، ولا أنسى هروعي إلى هاتف العملة الوحيد في قريتي لأهاتف الصديق الشاعر إبراهيم الحسين لأقرأه عليه وكلي وجل أنتظر رأيه. لا أذكر النص الأول، غير أن المشاعر المصاحبة له والظروف حاضرة. هو النواة التأسيسية التي طمرتها وحنيني إليها يضطرم كلما رفع الغطاء عن الذاكرة. ما هو المنبر الأول الذي نشرت به وكيف كان إحساسك؟ مكان النشر الأول لكتاباتي من خواطر ونصوص في جريدة «اليوم»، وأتصور وقتذاك أن نشوة الكتابة تستعاد مع لحظة النشر وخطواتها حين أذهب برسالتي إلى مكتب البريد في قرية «الجفر» المجاورة لقريتي «الجشة»، وانتظار أن أصافح النص منشورا بعد حوالي أسبوعين في الجريدة، والتوقع العذب بمصافحة النص وإعادة قراءته أكثر من مرة وبتمهل؛ سلسال ندي من المشاعر لا توازيها كما قلت إلا لحظة الكتابة المكتنزة هناك والممتدة هنا في مجرى النشر. ما هو الكتاب الذي حفزك على الكتابة؟ ليس كتابا، بل كتاب كنت أقرأ لهم في الصحفة المصرية التي تابعتها منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، ومن أبرز هؤلاء الكتاب: أنيس منصور، إبراهيم المصري، محمد زكي عبدالقادر... فقد كان لهؤلاء طابع خاص يمثل لي فتنة في تذوق اللغة لفظا وإيقاعا تشعر معها أن المقال يمر بمران اختباري قبل أن يصافح القارئ. ما هو الكتاب الذي تمنيت كتابته؟ الكتاب لم أتمن كتابته، ولكني عندما قرأته في مكتبة أرامكو في الظهران شكل لي عاصفة ذهنية وإبداعية، وأعدت قراءته أكثر من مرة. الكتاب هو «جنة العبيط» لزكي نجيب محمود؛ مقالات تأخذ جانبا قصصيا حكائيا لا ينسى. من هو الكاتب الذي يتجول في عروق كتابتك؟ أحسب أن قبيلة من الكتاب تتمشى في حروفي وعروقي من شعراء وقاصين وروائيين وكتاب مقالات، سواء في الكتابة العربية أو المترجمة من هواء العالم.. غير أن اثنين من المبدعين كانا لي بمثابة الزلزال: بسام حجار وقاسم حداد. ما هو الكتاب الأول الذي نشرته؟ «يفتح النافذة ويرحل»، وقد صدر في بيروت، عام 1995، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ما هي ظروف النشر التي رافقته؟ في منتصف التسعينيات انتقيت من نصوصي ما حسبته حينها ناضجا ويصلح أن أنشره في كتاب، وبعثتها للصديق قاسم حداد في البحرين الذي كان يرأس تحرير مجلة «كلمات» وعنها كانت تصدر سلسلة «كتاب كلمات»، لكن لظروف لا أذكرها الآن انقطعت هذه السلسلة، فاقترح قاسم الذي هيأ الكتاب وجهزه للطبع أن نرسله إلى «المؤسسة العربية للدراسات والنشر». تولى الصديق أحمد الملا أمر متابعة الكتاب وبروفاته، ولن أنسى له أبدا أنه دفع تكلفة الطباعة. في العام 1995 صدر كتابي الأول «يفتح النافذة ويرحل» بغلاف من إهداء الصديقة الفنانة الشاعرة ميسون صقر. ماذا تكتب الآن..؟ ليس لدي مشروع كتابي أعمل عليه. أكتب مقالات ومتابعات أنشرها تباعا في جريدة «الوطن». أما الكتابة الإبداعية فهي نادرة وشديدة التأبي، ولا تواتيني إلا كمثل المفاجأة السعيدة. هل تفرض على كتابتك نوعا من الطقوس؟ في وقت من الأوقات، وربما لزمن طويل، لم أكن أكتب إلا ليلا وفي السرير حيث الدفتر المدرسي «بو ستين ورقة» يتلقى تدويناتي وخربشاتي. الآن، الكتابة غير مرتبطة بوقت معين ولا بمكان معلوم ولا بدفتر مخصوص. مع الآيفون أو الآيباد أو اللابتوب تحللت الطقوس وما عاد لها من معنى ولا جدوى. كأنما هذه الأجهزة غدت هي الطقوس، ولكن في معنى مباشر وخشن يلغي التجهز والاستحثاث ويقفز إلى الاستدعاء والمثول. ما هو المكان الذي تحب أن تكتب فيه؟ عطفا على الإجابة السابقة، ليس من مكان معلوم ومحدد للكتابة؛ في المقهى كما هي حالتي الآن وأنا أجيب على هذه الأسئلة، أو في مكتبة المنزل أو غرفة الجلوس أمام التلفزيون لاهيا عنه، أو حتى في غرفة انتظار الدخول على الطبيب. ها هو تعريفك للكتابة؟ أحسب أن الكتابة مساحة للتعبير وفضاء للمخيلة وحقل للعب، ومرات تكون الكتابة ساحة منازلة لخصوم حقيقيين أو وهميين. وهل لها جدوى الآن؟ إذا كانت هذه الجدوى بمعنى وظيفي؛ تغييري يطال بنية المجتمع. فلست أرى هذه الجدوى ولا أثرها. الإعلام نفسه الذي يتنطح لهذه الصورة والتعليم أيضا معه لم يفلحا في هذه الوظيفة. لماذا نتوقع من الكتابة هذا الدور ونسميها «الجدوى». هل حقا الأدب في خطر؟ لا بد أن صرخة «تودوروف» بهذا العنوان في محلها عندما يجري بسط الأدب وتمديده على سرير بروكوست النظري وتشليعه مزقا حتى إزهاق الروح، وبالمثل عندما يجري التعامل معه مدرسيا كتاريخ وذاكرة دون تواصل مع عوالمه الإبداعية. فها هنا في الحالين نعثر على خطر يهدد الأدب بالاضمحلال وانحسار تأثيره الجمالي والروحي. ماذا علينا أن نفعل من أجله؟ إفساح المجال للأدب أن يفعل فعله باكتناه أثره ومراميه وتتبع الأرواح السارية في حروفه؛ تلقيه في زخاته الأولى دون العدة الاستعراضية وبلا جرة إلى مخازن التاريخ والتربية. الأدب ليس جثة في مختبر ولا عربة توصيل. هل تحب أن توجه تحية شكر لشخص ساعدك في مشوارك الأدبي؟ الصديق الشاعر «أحمد الملا»؛ رفيق الدرب والساعد الصلب في الإبداع والحياة. هل لديك أمنية أدبية تحلم بتحقيقها؟ كتبت لمرة واحدة في أوائل التسعينيات نصا قصصيا للأطفال، وأيضا في الفترة نفسها كتبت نصا مسرحيا قصيرا نشر في الملحق الثقافي بجريدة اليوم. أمنيتي أن أعيد التجربة. (*)عبدالله السفر كاتب وناقد من مواليد قرية الجشة في الأحساء عام 1960. من أعماله: «يطيش بين يديه الاسم». و«يذهبون في الجلطة»..