إن استقراء المرء لأحكام الشريعة الإسلامية ونَظره في أدلَّتها الكليَّة والجزئيَّة، يجد أنها دائرةٌ حول رعاية مصالح الناس، أي أنها جاءت لبيان ما به صلاحُ أحوال البشرية في دنياها وأُخراها، كما قال العزُّ بن عبدالسلام رحمه الله (والشريعةُ كلُّها مصالح، إما تَدْرأُ مفاسد أو تَجْلِبُ مصالح، فإذا سمعت الله يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فتأمَّل وصيَّتَهُ بعد نِدائِهِ، فلا تَجِدُ إلا خيراً يَحُثُّك عليه، أو شرَّاً يَزجُرُكَ عنه، أو جمعاً بين الحثِّ والزَّجر) وقد ذكر الإمام الغزالي رحمه الله أنَّ الشريعةَ ترعى مصالح العباد عبر المحافظة على خمسة مقاصد، بِها قِوامُ الحياة الإنسانية، فهذه المقاصد مُراعاةٌ في كلِّ ملَّة من الملل، وأعلى هذه المقاصد الضرورية مقصدُ حفظ الدين ثم حفظ النفس ثم حفظ العقل ثم حفظ النَّسل وأدناها حفظ المال، ثم إن حفظ النفس يكون من جانب الوجود يكون بتوفير ما يقيمها من المأكل والمشرب والمسكن، وحفظها مِن جانب العدم يكون بحمايتها من الاختلال الواقع أو المتوقع عليها، وقد شرع الله من أجل ذلك التداوي من الأمراض إذا وقعت بالإنسان، وشرع التَّوقِّي منها قبل أنْ تقع، ونهى عن التعرُّض لها، فقد بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين خرج إلى الشام أن الوباء قد وقع بها، فامتنع عن دخولها، فجاء عبدالرحمن بن عوف، وكان متغيِّباً في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تَقْدمُوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) قال: فحَمِدَ اللهَ عمرُ ثم انصرف، أيْ لم يدخلها، لِئلا يتعرَّض هو ومن معه لانتقال العدْوَى، والتداوي بحقن المريض بالدم، لا إشكال في جوازه، لأنه من باب حفظ النفس بدفع الاختلال الحاصل عليها، وذلك حال نقص الدم في العروق، وبهذا صار التبرع بالدم سبباً من أسباب حفظ النفس، فهو من باب التعاون على البر، فالمتبرِّع مأجور إن حسُنت نيَّتُه إن شاء الله تعالى، فقد قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) وهو من باب تفريج الكُرَب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، وقال أيضا في الرجل الذي ملأ خُفَّهُ ماءً، فسَقَى الكلب: (فِي كُلِّ ذات كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْر) غير أنَّ المرءَ قد يستشكل أن الدم نجسٌ مقطوعٌ بتحريمه، فقد حرَّمه الله تعالى بنصِّ كتابه فقال سبحانه: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) وقال أيضا: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ) فالجواب أن التحريم مقطوع به لغير المضطر، أما المضطر فلا حرج عليه في ذلك بإجماع المسلمين، فإنَّ الله تعالى بعد أن ذكر تحريم الدم قال: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وقال: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) وقال: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وعليه فإن المتبرِّع بالدم مُحسن بتبرُّعِهِ مؤْثِرٌ غيره بمعروفه، وإن ترتَّب على هذا شيءٌ من الضرر على المتبرِّع، فهذا من الإيثار بالنفس، كما قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) قال الإمام النّووي رحمه الله: (أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفس) بل إن الامتناع عن التبرُّع حالَ تعيُّنه مَظِنَّةُ الإثم، لأنه بمنزلة ترك إنقاذ الغريق، فإن امتنع المريضُ الذي اشتدَّتْ حاجته للدم عن التداوي، فرفض أنْ يُعطَى الدم، كان بمنزلة مَن ألقى نفسَه في التهلكة، وعرَّضها للموت، وهو محرَّم، قال البغوي رحمه الله (وإذا عُلِمَ الشِّفاءُ في المداواة وَجَبَتْ) ولذلك اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب أكل الميتة للمضطرِّ إذا خشيَ على نفسه الهلاك، فما أعظم أجرَ من يكون سببا في إنقاذ حياة الآخرين، قال الله تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).