لم تفرض الشريعةُ الإسلاميةُ أحكامَها لمجرَّد فرْضِ سلطان الدِّين على الناس، وإنما فرضتها من أجل تحقيق سعادة البشرية جمعاء، لتستقيم حياة البشر على حالٍ يُفضي إلى السعادتين، الدنيوية والأخروية، فقد عُلم بالاستقراء في أحكام الشريعة الإسلامية والنظر في أدلَّتها الكلية والجزئية أنها دائرةٌ حول رعاية مصالح الناس، كما قال سيدنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعتَ الله عز وجل يقول: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ» فأصْغِ إليها سَمْعَك، فإنَّه خيرٌ توصَى به، أو شَرٌّ تُصرفُ عنه) وهو ما عناه العز بن عبد السلام رحمه الله بقوله: (والشريعةُ كلُّها مصالح، إما تَدرأ مفاسد أو تَجلِب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»ْ فتأمَّل وصيَّتَهُ بعد نِدائِهِ فلا تجد إلا خيرا يحُثُّك عليه أو شرَّاً يزجرك عنه ، أو جمعا بين الحثِّ والزَّجر ) وهذه المصالح تندرج تحت خمسة مقاصد ضروريةٍ، هي أساس العمران الإنساني، وهي مطلبٌ لكلِّ أمَّةٍ على الأرض، قال الإمام أبوحامد الغزالي: (وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها، يستحيل أن لا تشتمل عليه ملَّةٌ من الملل، وشريعةٌ من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق) ومن بديع ما صنعه الأصوليون أنهم رتَّبوها حسب أهمِّيَّتها، فجعلوا أعلاها حفظ الدِّين ويليه حفظ النفس فالعقل فالنسل فالمال، وذكروا أنَّها مشمولةٌ في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ من الصُّوَر التي تبرِّر الغايةُ فيها الوسيلة أنْ يبذل المريضُ المالَ في سبيل علاج نفسه من الهلاك أو الضرر، ومن ذلك ما ذكره الفقهاء أنَّ مَن غصَّ فخشِيَ الهلاك، ولم يجد أمامه إلا الخمر، جاز له شُرب الخمر ليُسيغ به غصَّته، لأن حفظ النفس أهمُّ من حفظ العقل، ومن ذلك أنه يجوز أكل مالِ الغير لمن خَشِيَ الهلاك، لأن حفظ النفس أهمُّ من إتلاف مال الغير، والأمثلة في هذا كثيرةٌ جدَّاً . يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وإن كانت الآية بصيغة التأنيث، غير أن الأمر يشمل الرجال والنساء على السواء، ورعاية هذه المقاصد الخمسة يكون بحفظها من جانب الوجود بتوفير ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وبحفظها من جانب العدم، بتوفير ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقَّع، فهذا الترتيب أوجد للمسلمين قانونا منضبطاً في تقدير الأولويات، وهو ما تفتقر إليه النُّظم الأخرى، حيث اضطربوا في الجواب على سؤال: هل الغاية تبرِّر الوسيلة أو لا تبرِّرها؟ فهناك العديد من النظريات المضطربة كالنظرية الميكيافيلية وغيرها، وأما نحن فالقاعدةُ عندنا أنْ ننظر إلى سُلَّم الأولويات، ثم نُنزِّل الحكم استنادا إليه، فإذا تعارض أمامَنا حفظُ النفس مع حفظ المال قدَّمنا حفظ النفس على حفظ المال، ثم إن أمامنا سُلَّماً آخر، وهو أن هذه المصالح تتدرَّج في أهمِّيَّتها عبر ثلاث درجات، ضروريات: وهي ما لا يستقيم حال الفرد أو الجماعة بدونه، وحاجيَّات: وهي ما يُحتاج إليه من حيث التوسعة ورفع الضيق، وتحسينيَّات: وهي ما يَحْسُن به حالُ الفرد أوالجماعة على سبيل التنعُّم والتَّرفُّه، وهكذا يكون حفظ مصالح الناس بمراعاة الأعلى درجة منها ثم ما دونه، بحيث إذا دارُ الأمرُ بين حفظ ضروريٍّ وحفظ حاجيِّ، فإنَّ حفظَ الضروريِّ مُقدَّم على حفظ الحاجيِّ، ومن باب أولى على حفظ التحسيني، وبهذا تُهدر المصلحة الأدنى، في سبيل المحافظة على المصلحة الأعلى، وهكذا الأمر في سائر المصالح الخمسة، وتفصيل القول في هذا المعنى طويلٌ جداً، فهو شاملٌ لعموم الأحكام الشرعية، في جميع أبواب الفقه، فيشمل العبادات والمعاملات وأحكام الجنايات وأحكام الأقضية والدعاوى وغيرها، فمن الصُّوَر التي لا تبرِّر الغايةُ فيها الوسيلة، أنَّه لو أرادَ أحدٌ تحصيل المال بفتح حانة للخمر، أو فتح صالة للَّهو المحرَّم، فإنَّا نمنعه من ذلك لأنه ضحَّى بالعرض في سبيل المال، فغايته المال، وهي غايةٌ مباحة، غير أنَّ وسيلته تُفضي إلى تفويت مصلحة أعلى وهي حفظ العرض، ومن الصُّوَر التي تبرِّر الغايةُ فيها الوسيلة أنْ يبذل المريضُ المالَ في سبيل علاج نفسه من الهلاك أو الضرر، ومن ذلك ما ذكره الفقهاء أنَّ مَن غصَّ فخشِيَ الهلاك، ولم يجد أمامه إلا الخمر، جاز له شُرب الخمر ليُسيغ به غصَّته، لأن حفظ النفس أهمُّ من حفظ العقل، ومن ذلك أنه يجوز أكل مالِ الغير لمن خَشِيَ الهلاك، لأن حفظ النفس أهمُّ من إتلاف مال الغير، والأمثلة في هذا كثيرةٌ جدَّاً .