يشير مصطلح "المواطنة" إلى شعور بالانتماء إلى كيان سياسي - اجتماعي محدد "وطن" يضم جماعة بشرية ترتبط فيما بينها بروابط يفترض أن تقوم على أساس المساواة التامة في الحقوق والواجبات دون تمييز بين أحد منهم على أساس الجنس أو الدين أو الطائفة أو العرق أو اللون أو أي شكل آخر من أشكال التمييز. ويثير هذا التعريف - رغم بساطته الظاهرة - جملة من الإشكاليات الفكرية والسياسية إلى تشخيص وتفكيك. فمفهوم "الوطن" - الذي اشتقت منه كلمة مواطنة في اللغة العربية - يستخدم في أحيان كثيرة كمرادف لمفاهيم "الدولة" و"الأمة" و"القومية"... الخ، رغم الاختلاف الواضح بينها. وربما يعود التباين في معاني ومضامين هذه المصطلحات في اللغة العربية، مقارنة بنظيراتها في اللغات الأوروبية، إلى اختلاف ظروف نشأة الدولة في العالم العربي عنها في أوروبا. ففي أوروبا، ارتبطت نشأة الدولة بظاهرتين أساسيتين: الأولى: فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية، وهو ما أدى إلى استقلال الأمراء أو الحكام "المدنيين" بالسلطة الزمنية واقتصار دور الكنيسة أو "رجال الدين" على الجوانب الروحية. الثانية : ظهور تيارات فكرية وحركات سياسية تطالب بحق كل "أمة" في إقامة دولتها المستقلة، وهو ما أدى إلى ظهور "الدولة القومية" أو "الدولة - الأمة" في أوروبا عقب انعقاد مؤتمر وستفاليا في منتصف القرن السابع عشر. من الطبيعي، حين تتطابق حدود "الدولة" مع حدود "الأمة" على هذا النحو، أن يقوى الشعور بالانتماء والرغبة في العيش المشترك، وتصبح المشاعر "الوطنية" في هذه الحالة متطابقة ومتوحدة تماما مع المشاعر "القومية"، وبالتالي يتلاشى تماما احتمال ظهور أي صراعات حول "الهوية"، لأن هذا النوع من الصراعات لا يظهر إلا حين تتعدد إلى حد التتناقض مشاعر الولاء والانتماء بين "الوطني" و"القومي" و"الديني" في ضمير الفرد. أما في "العالم العربي"، الذي لم يكن له وجود سياسي مستقل قبل ظهور الإسلام وظل مرتبطا بنظام الخلافة العثمانية حتى سقوط وانهيار الامبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى، فلم ترتبط نشأة "الدولة" فيه بظهور حركة "قومية" تطالب بإقامة دولة عربية موحدة، وبالتالي لم يعرف في تاريخهم ظاهرة "الدولة - الأمة". ولأن الشعوب الناطقة بالعربية تعرضت للاستعمار والاحتلال من جانب دول أوروبية مختلفة حتى قبل تفكك الامبراطوية العثمانية، فضلا عن أنها لم تمكن من ممارسة حقها في تقرير مصيرها عقب سقوط الخلافة الإسلامية، فقد كان من الطبيعي أن تتنازعها تيارات فكرية وسياسية مختلفة، ليبرالية وعروبية وإسلامية، تجسد كل منها هوية قائمة بذاتها، وطنية أو قومية أو دينية، تبدو في ظاهرها متعارضة أو حتى متناقضة، لذا يمكن القول : إن صراع الهويات المشتعل حاليا في العالم العربي له جذور عميقة وتواكب في الواقع مع نشأة الدول العربية نفسها. وأيا كان الأمر، فمن الواضح أن انتصار نموذج "الدولة القومية" في أوروبا لم يؤد بالضرورة إلى شيوعه عالميا، وبالتالي لم يصبح العامل القومي هو الأساس الوحيد أو حتى الرئيس في قيام الدول. ففي أوروبا نفسها قامت دول متعددة القوميات، مثل سويسرا وبلجيكا وغيرها، وأدت الكشوف الجغرافية، وما أعقبها من هجرات بشرية واسعة النطاق ومن تنافس استعماري حاد بين القوى الأوروبية، إلى تراجع العامل القومي في ترسيم الحدود بين مستعمرات تحولت في نهاية المطاف إلى دول، عقب ضمور، ثم اختفاء الظاهرة الاستعمارية. فإذا أضفنا إلى ذلك كله ما أحدثته الثورات العلمية المتعاقبة من تأثيرات واسعة النطاق على حركة البشر، لأدركنا حجم التغير الهائل الذي طرأ على بنية الدول والمجتمعات، التي لم تعد في معظمها بنفس درجة التجانس التي كانت عليها عند ظهور "الدولة القومية" في أوروبا في منتصف القرن السابع عشر. ما نريد أن نصل إليه هنا أن التنوع العرقي والديني والثقافي أصبح سمة غالبة في مختلف دول العالم، بما في ذلك "الدول القومية"، ما جعل من "التعددية" مسألة مرتبطة عضويا بمفهوم "المواطنة"، بصرف النظر عن طبيعة السلطة الحاكمة أو شكل النظام السياسي القائم، لأن هذا النظام مطالب في جميع الأحوال بكفالة حقوق المواطنة لكل من يحملون جنسية الدولة التي يتحدث باسمها على الصعيد الدولي. فقد بات من المسلم به الآن تماما أن التمتع بحقوق "المواطنة" في أي دولة كانت، بصرف النظر عن درجة التجانس في البنية المجتمعية لهذه الدولة، أصبح أمرا مستحيلا ما لم تمكن كافة فئات المجتمع من التعبير عن نفسها وعن مصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية، بعبارة أخرى يمكن القول أن "المواطنة" والتعددية أصبحا وجهان لعملة واحدة. تجدر الإشارة هنا إلى أن الطريق نحو إقرار "حقوق المواطنة" التي يفترض أن تكفل المساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع دون تمييز، لم يكن معبدا أو مفروشا بالورود، حتى في الدول التي تنعم الآن بنظم ديمقراطية راسخة ومستقرة. فقد تطلب الوصول إلى هذا الهدف نضالا مريرا وطويلا على جبهتين رئيسيتين: جبهة مقاومة الاستبداد بكل أشكاله، وجبهة مقاومة التمييز بكل أشكاله. احترام حقوق المواطنة يتطلب ما هو أكثر بكثير من مجرد السماح بتعددية شكلية تقتصر على إلغاء نظام الحزب الواحد والسماح بتعدد الأحزاب. فحقوق المواطنة ليست حقوقا فردية فقط تتطلب ضمان مساواة جميع المواطنين أمام القانون دون تمييز، ولكنها تنطوي أيضا على حقوق جماعية تستهدف الحيلولة دون احتكار النخبة الحاكمة، حتى ولو كانت تعبر عن إرادة أغلبية المواطنين، للثروة والسلطة، ومنع "الأكثرية" من التحكم في "الأقلية" وإجبارها على احترام حقوقها. بعبارة أخرى يمكن القول : إن المواطنة تعني - ضمن اشياء أخرى كثيرة - ضرورة احترام حقوق "الأقليات" بمختلف أنواعها، سواء كانت أقلية سياسية أم عرقية أم دينية أم طائفية. ولا يمكن احترام حقوق المواطنة - طبقا لهذا المفهوم الموسع - إلا بتعددية حقيقية لا تكتفي بضمان المساواة الشكلية أمام القانون، أي تعددية تسمح بتداول فعلي للسلطة، وبإتاحة الفرصة كاملة أمام مختلف الأقليات للتعبير عن نفسها سياسيا وثقافيا وايضا للمشاركة بفعالية في صنع مستقبل الوطن الذي تعيش فيه.