كان في مخيلتي صورةٌ عامة للدراسات القرآنية تمثلتْ في بستانٍ وارفِ الظلال كثيرِ العطاء، طيبِ الثمار، تلتفُّ فيه أنواعُ النباتات، الزُّرَّاعُ فيه هم الباحثون، ولا بد لصاحب البستان وزُرَّاعه أن يتفقدوا أنواع المزروعات وأصنافها، ويضعوا لكل صنف حقلاً خاصاً به، وتتنوع نظرةُ الزائر لذلك البستان بين حقولٍ لا يجد فيها موضعاً لزرعٍ جديد، وبين أخرى لم تأخذ حظها من العناية والرعاية، كان ذلكم الحال هو حال حقول الدراسات القرآنية، في هذه الصورة الافتراضية في مخيلتي حين كُلِّفت بتدريس مقرر: (مناهج البحث في الدراسات القرآنية) لطلبة الدراسات العليا، فجمعت بين يدي أبرز ما كُتب في مناهج البحث، مما سطره العلماء القدامى والمعاصرون، وبقي في ذهني سؤالٌ يتردد كثيراً، أثناء جمع المادة، ويطل عليَّ في مناسبات مختلفة، وهو: كيف يمكن لطالب الدراسات القرآنية أن يستقل بمنهج للبحث، يختص به عن غيره من الدارسين في التخصصات الأخرى؟، وهل يكفي في تدريس هذا المقرر أن يمر الطالب على آداب الباحث وشروطه وخصائصه وغير ذلك من المفردات المهمة التي لا يستغني عنها الباحث، إذا كان ذلك هو المقصود من المقرر؛ فلِمَ ضُمَّ إليه في العنوان: (الدراسات القرآنية)!، وبدأت الصورة تتجلى قليلاً حين شرعت في تدريس المقرر، فقسمته إلى قسمين: الأول: في المفردات التي يذكرها غالب من يؤلف في مناهج البحث، وهي: الأسس العامة التي يخرج بها الطالب متمكناً من طريقة الكتابة، ومنهجيتها، ومعرفته العامة بالمصادر والمراجع، التي يرجع إليها أثناء بحثه، إلى غير ذلك من المفردات المعلومة. ولكنَّ ذلك كلَّه لا يختص بالدراسات القرآنية، بل هو عام في جميع التخصصات، لذا كان لابد من: القسم الثاني: وهو الذي يجيب عن كيفية البحث في الدراسات القرآنية، وينسجم مع عنوانه، إذ لا يكفي الباحث في الدراسات القرآنية أن يُلم بالأسس العامة للبحث، دون أن يعرف منهجية البحثِ في الحقول المتفرعة من الدراسات القرآنية، وعلى سبيل المثال: ما منهج البحث في التفسير التحليلي، أو في التفسير الموضوعي، وما المنهجية في المقارنة بين كتب علوم القرآن، أو في بيان مناهج المفسرين، وهنا تفرع ذلكم السؤال الأول، إلى سؤالين آخرين هما: * ما حقول البحث في الدراسات القرآنية، التي بحث فيها المتخصصون فتنوعت كحقول البستان الذي لا يزال مرسوماً في مخيلتي؟. * وما منهج البحث في كل حقل؟. ثم بدأت في التفكير في السبيل لمعرفة هذه الحقول أولاً قبل معرفة المنهج في بحثها. وليس المقصود هنا أنواع علوم القرآن التي قررها العلماء في كتبهم كما فعل الزركشي والسيوطي رحمهما الله، بل المقصود: ما المجالات التي يجدها الباحث أمامه ليختار منها مجال بحثه، وما الموضوعات التي بحثها المتخصصون فيها حتى الآن؟، وكيف يمكن تصنيف هذه الموضوعات إلى حقول يدخل في كل حقل منها موضوعات كثيرة؟. حينها بدأت بجمع عناوين الرسائل الجامعية في الجامعات السعودية منذ تأسيسها وحتى العام الذي بدأتُ فيه تدريسَ المقرر، ولم يكن الحصول على تلك العناوين على درجة واحدة من اليُسر والسهولة، فبين جامعةٍ نشرتْ عناوينَ رسائلها في دليل إلكتروني أو مكتوب، وأخرى كان لا بد من التواصل الشخصي مع الأقسام العلمية للحصول على تلك الرسائل، وتجمَّعَ لدي عددٌ كبير من الرسائل بلغ (1569) عنواناً.