من 18 و19 يناير 1977 إلى 25 يناير 2011، التي تحل ذكراها الخامسة، الإثنين المقبل، كانت هناك 34 عاماً لم ينتبه فيها أحد، ولا نظام، إلى "فحيح الأفعى" الكامنة وسط الشوارع الخلفية، أو العشوائيات الفقيرة، بحثاً عن يوم تنفث فيه سموم غضبها متعدد الأشكال ضد إجراءات السلطة.. في مجتمع ضاعت ملامحه طيلة 40 عاماً بين الانفتاح أو "السداح مداح" وبروز طبقة رجال الأعمال، التي لم تكتفِ بمجرد الربح والتجارة، بل طمعت لتكون هي مفاتيح اللعب مع السلطة أحياناً.. وتحت قدميها في أغلب الأحيان. لم يتوقع أحد، أن ما عُرف ب"انتفاضة الحرامية" كما أطلق عليها الرئيس الراحل أنور السادات، لمجرد خروج الآلاف في شوارع القاهرة والجيزة، وبعض المدن الكبرى، صبيحة يوم 18 يناير 1977 انطلاقاً من منطقة حلوان الصناعية، في "ثورة خبز" تنتشر كالنار في الهشيم، احتجاجاً على رفع رئيس الوزراء يومها، د. عبد المنعم القيسوني، أسعار الخبز والسكر والشاي، وبعض السلع الأساسية الأخرى، يُمكن أن يتكرّر، ناثراً غضبه العنيف هذه المرّة، وإن كان باسم "العيش والحرية والكرامة الاجتماعية". بين رئيسين السادات الذي استوعب درس دغدغة المشاعر، وتعلّم من دهائه أن يحتوى الغضب على الغلاء، تراجع عن قرارات الحكومة، في أقل من 72 ساعة، بعدما رأى في اليوم التالي 19 يناير، الأمور وهي تتصاعد بشكل أكثر عنفاً وضراوة، حيث لجأ المتظاهرون إلى أسلوب التخريب خاصة لأقسام الشرطة، والملاهي الليلية والفنادق الكبرى، فيما خلفه، حسني مبارك، لم يتفاعل بالسرعة الواجبة مع احتجاجات بسيطة في ميدان التحرير (قلب العاصمة المصرية) وقال قولته الشهيرة بعدم اكتراث :"خليهم يتسلّوا" دون أن يدرك أن هناك من الأصابع الخفية من يبحث عن مسمار جحا، لتغيير الأوضاع بثمنٍ أو ب"عمولة" أو تطوعاً.. وإن كانت البداية بشعر بسيط، سرعان ما تحول إلى زئير في الميادين يطلب رأس النظام نفسه. المثير للاستغراب، أن انتفاضة "الخبز" أو "الحرامية" كانت وفق محللين بطاقة الاعتماد الأولى لمبارك، عند السادات، في أول تحدٍ داخليٍّ، بشكل جعل نائب الرئيس وقتها فى تلك اللحظة واحداً من أكثر الرجال جدارة بالثقة بالنسبة للسادات الذي بات أكثر اعتماداً وبأشد ما يكون على نفوذ نائبه في الجيش ومعه وزير الدفاع وقتها المشير عبد الغني الجمسي، ومع ذلك، فإن مبارك ذاته، وفي أول اختبار شعبيٍّ له، رسبَ بجدارة في المواجهة مع الجموع الغاضبة. ويأخذ البعض على مبارك، أنه تعامل مع مجريات الأمور على الأرض بالقطعة، وبتأخر واضح ربما لا يليق مع سرعة اتخاذ القرار وجرأته، قياساً بطبيعته كرجل عسكري رفيع، وأنصت فقط للدائرة المحيطة، دون أن يقرأ بجدية ما يمكن أن يحمله صباح اليوم التالي، لتكون سلسلة التدهور السريع في أقل من 18 يوماً، انتهت ب"تخليه عن السلطة" للمجلس العسكري، وفق بيان مدته 15 ثانية لنائبه الراحل عمر سليمان، لتشتعل الأرض فرحاً، ودون أن يسأل أحدهم عن الخطوة التالية!. ..وماذا بعد؟ كان هذا السؤال تحديداً، نفس ما سأله زعيم الهند الراحل، جواهر لال نهرو في قمة عدم الانحياز الأولى في باندونج بأندونيسيا (1955)، في مرحلة الثورات ضد الاستعمار.. وهو ما لم يمكن لأحد العثور على إجابة له حتى الآن، وحتى بعد الاتصال ب"أكثر من صديق"، تملكت الثورات زمام الأمور في بلدان أفريقيا وآسيا "المحتلة" لتفاضل الشعوب بعدها ما بين استعمارين.. أحدهما كان أجنبياً، والبديل للأسف الشديد بات بأيد وطنية.! تنحى مبارك، وغاب "الأبرياء" الحقيقيون عن المشهد، اكتفاءً بالإنجاز، وظهرت أنياب متعددة، لقطف الثمرة الجاهزة، بوجود مجلس عسكري، حاول السيطرة على زمام الأمور ومنع انجرار البلاد لحرب أهلية، تزامن مع انقضاض سريع لجماعة "الإخوان" وأتباعها على مفاصل الأوضاع، فاللحظة اللزجة هي أفضل مناخ لتحقيق حلم 85 عاماً للوصول إلى الحكم.. فيما "النخبة" السياسية بدت للوهلة الأولى عاجزة عن تقديم ما يشفع لها عند الشارع بأنها بديل "ممكن"، لتتناثر أشلاء الثورة، وينتهي عامٌ 2012 بانتخاب مرشح مكتب الإرشاد، محمد مرسي ليكون رئيساً للبلاد، على حساب مرشح آخر، وصفته الدعاية المضادة بأنه مرشح "الفلول" أي نظام مبارك، في انتخابات تنتابها الشكوك بالتزوير، وتهديدات الجماعة بإعادة سيناريو حريق القاهرة (1952) وهذه المرة حرق مصر كلها.. ليسلم المجلس العسكري السلطة في مشهد "تاريخي" للرئيس الإخواني المنتخب، وإن كان هناك تحت الرماد ما لا يراه أحد. سكّة اللي يروح؟! وإذا كان كاتب صحفي ساخر، هو الراحل أحمد رجب، قد قال يوماً :"اللهم احمِ مصرَ من المصريين" فإن كثيرين لم ينتبهوا ولم يستوعبوا، لتبدأ مرحلة القفز العشوائي في 25 يناير 2011، بداية من "النوايا الطيبة".. وتلك تحديداً من اعتبرها أحد الحكماء بأنها "تُعَبِّدُ الطريق إلى جهنم".. فتكون البداية من هنا.. "سكة اللي يروح ما يرجعش" مثلما يقول المثل العامي المصري الشهير. كان هذا أصدق توصيف للوضع المصري في فترة ما بعد يونيو 2012 (تاريخ تنصيب مرسي) إذ بدا أن الأخير، لم يكن يملك قراره، وأن مكتب الإرشاد في المقطم، ومرشده، وجماعته، هم من يديرون المشهد الرئاسي، ليعود "فحيح" الشارع من جديد، بالتوازي مع سوء إدارة لا يُصدّق من قبل الرئيس في التعامل مع الملفات الشائكة، بالتزامن مع أخطاء ساذجة للغاية، أظهرت ضعفه الشديد، وموالاته لجماعته، إذ لأول مرة سمع الشارع رئيسه المفترض، يوجه خطابه ل"أهله وعشيرته" فقط، وزاد الطين بلّة بمطالبته أجهزته الأمنية بالحفاظ على حياة "الخاطفين" قبل "المخطوفين" في حادثة خطف الجنود في سيناء (2013) بعد أن أصدر إعلاناً دستورياً جلب سخط الجميع.. لتبدو البلاد وكأنها في الطريق إلى الفوضى المجهولة. "البتاع" العربي والسبّوبة إنه الربيع العربيُّ إذاً.. أو "البتاع العربي" كما وصفه بعبارة ساخرة، الأمين العام للجامعة العربية السابق، عمرو موسى ل(اليوم) في حديث خاص، مزيجٌ من أحلامِ الثوراتِ المفتعلة، واتهامات المؤامراتِ المفتوحة. صخب التأويلات الذي جاء بعد ثورة 30 يونيو وإنهاء حكم الإخوان، وخلع الرئيس الأسبق محمد مرسي، بدأ يتصاعد بشكلٍ غير مسبوق، خاصة بعد كشف "المستور" الذي تأرجح ك"حبل مشنقةٍ" يلتفُّ حول رقبة أي مخالف، في ظاهرة جسّدت أن كثيرين في الشارع العام، باتوا يرون أن 25 يناير أظهرت أسوأ ما في المصريين. النخبةُ أفلست تماماً، ومهنة الناشط السياسي باتت "سبوبة" لتحقيق الثروة والظهور، وتجلت أسوأ تجلياتها المتطرفة، فيما قالته إحدى الناشطات قبل أيام على الهواء، من أن قداسة ميدان التحرير تفوق الكعبة المشرفة!.. فيعود الجدل مرة أخرى.. مع اتهامات أعنف بالتخوين والمؤامرة. ثورة.. أم مؤامرة؟ الساحة المصرية، المهمومة بمتاعبها، لا تزال حائرة حول 25 يناير، هل هي انتفاضة بطعم الثورة، أم أنها مؤامرة بطعم الخيانة؟. الشارع منقسم، والاتهامات متبادلة، رغم أن دستور 2014 الأخير، اعترف بكونها "ثورة" جنباً إلى جنب مع ثورة 30 يونيو.. ولكن هذا لا يروق للكثيرين.. لدرجة أن برلمانياً تردد في القسم الدستوري في جلسة مجلس النواب الأولى، رفضاً لاعتبارها ثورة، ولكنه رضخ في النهاية وأعاد القسم. المدافعون عن مفهوم "الثورة" ومنهم عضو المجلس الرئاسي لتحالف التيار الديمقراطي، مدحت الزاهد، يقولون، إن مصر الجديدة ولدت فعلاً في 25 يناير 2011، التي رسخت لأول مرة معنى الوحدة الوطنية، على الأرض، وخلال 18 يوماً فقط.. ومثله كثيرون. فيما من يتبنُّون نظرية المؤامرة، ومنهم وسائل وبرامج إعلامية، فيرون في التسريبات التي توالت بشأن نشطاء "الثورة" وعمالتهم لمخابرات أجنبية، مبرراً كافياً للشك في أنها ثورة أساساً، معتبرين أن اعتمادهم ليوم 25 يناير، الذي هو مناسبة وطنية (عيد الشرطة) ضربة لواحد من أهم المناسبات المصرية المتعلقة بمقاومة الاحتلال البريطاني. قيادي أمني كبير، هو نائب رئيس جهاز أمن الدولة السابق، اللواء عبد الحميد خيرت، ممن يميلون لهذا الرأي، وذهب لاعتبار أن أجندة 25 يناير 2011، لم يكن هدفها مجرد تنحية نظام، ولكن كان شاغلها الأكبر إسقاط دولة، ومحو تاريخها واختصارها في مجرد "مكتب إرشاد" بائس، وعصابة تتخذ من كهفها بالمقطم ليكون بديلاً عن الرمز التاريخي في قصر الرئاسة، بوضع مندوب ينفذ كل ما يُمليه عليه الكاهن الأعلى.. "المرشد".! وأضاف ل(اليوم) أن الثورات تقوم على أساس البراءة المجتمعية، لا الخديعة والانتهازيات السياسية، وعلى أساس الطموح المباح، وليس التخطيط والتآمر، وعلى أساس الولاء والوفاء للوطن، وليس العمالة والاستئجار. الحكم للتاريخ الذكرى تقترب.. والتهديدات تتصاعد، وكذا الاحتياطات الأمنية، فيما يترقب المصريون 25 يناير بمخاوف وشكوك متعمّدة، هناك من يعتزم الاحتفال ربما غير البريء.. وهناك أيضاً من يشحذ أسلحته للمواجهة والانقضاض.. فيما يقف التاريخ حائراً، منتظراً ما ستكتبه الأيامُ المنصفةُ ليدونه في صفحاته، بعيداً عن كل هؤلاء.