"لمن تقرأ؟" لكل منا إجاباته الخاصة عن هذا السؤال. لكن حين يطرح هذا السؤال في عصر تتنوع فيه مصادر الاطلاع، وقنوات المعرفة، فلا غرابة أن أجيب متمثلا بالبيت القائل: "تكاثرت الظباءُ على خراشٍ/ فما يدري خراشٌ ما يصيد". مع ذلك، تبدو حيرتي أقل من حيرة السيد خراش لأني أستطيع، أحيانا، التمييز بين صيدٍ وآخر، فأتبع الاقتراح القائل: "لا تأخذ معك شطيرة وأنت ذاهب إلى مائدة" وقد تكون المائدة كتابا أو مقالا. أما حين يتعذر التمييز بين الغث والسمين فإني غالبا ما ألجأ إلى النصيحة القائلة: "إذا أحسست بالضجر وأنت تقرأ كتابا ما فلا تتردد في أن تضعه جانبا لأنه لا يكون قد كتب من أجلك"! وللإجابة عن السؤال السابق أقول: لا أجد ما يغريني عند كاتب يجاري الذائقة العامة مجاراة التاجر للمستهلك، ولا عند نظيره الذي يراهن على المفرقعات الكلامية والمواقف البهلوانية التي تنشد الإثارة ولَفْتَ الأنظار. كذلك، لا أستطيع التواصل مع كتابات من يتوهم أنه سادن الحقيقة، فيمطرني بوابل من الوصايا، ولديه إجابات جاهزة تلائم حقائقه الخاصة. ولا يثير فضولي الكاتب الذي يوصد باب الأسئلة ويرمى بالمفتاح في بئر قناعاته الخاصة. وأشك كثيرا في مقاربات كاتب يكثر من استخدام عبارة "لا شك". ولا أجد الوقت الكافي لمتابعة كاتب واقعٍ في أسْرِ الماضي. فالماضي منصة انطلاق نحو المستقبل، وليس سجنا. نتأمل الماضي ونتعلم منه. نعيد إحياء جوانبه الخلاَّقة، ونتفادى تكرار أخطائه، ولا نحمل على كواهلنا تبعاته، أو ندير حياتنا وفقا لمعاييره، ونتذكر دائما أننا أبناء اليوم. وشركاء الحاضر. وإذا تجاوزنا مضمون الكتابة، على اعتبار أن "المعاني ملقاة على قارعة الطريق"، فإن الشكل هو ما يميز بين كتابة وأخرى. وفي معرض كلامه على أهمية الشكل يشير محيي الدين اللاذقاني إلى أن فلوبير قد سئل مرة، "لماذا لا يطبع في كتاب المحاضرات التي يلقيها شفويا في كوليج دي فرانس" فقال لسائله، ويبدو أنه أحد طلابه: "الشكل يكلف كثيرا يا بني". نعم فالشفاهي مباشر ومرتجل وبسيط، والبساطة لا تكلف كثيرا. يعبر الكاتب اليوناني كازنتزاكي عن هذه الفكرة المرتبطة بالشكل على هذا النحو: "عند رؤية شجرة مزهرة أو نجمة" أو أي شكل من أشكال الجمال فإننا نعبر عن دهشتنا بأن نطلق كلمة "آه". "لا شيء غيرها يتلاءم مع غبطتنا". لكن الكتابة تحول تلك "الآه" إلى كلمات، فإما أن يقدمها الشكل للمتلقي في صورة زاهية متألقة أو في صورة باهتة. الشكل هو الوعاء الذي يضفي على المحتوى أو المضمون رونقه. إن سحر الكتابة لا يكمن في الكلمات بل في طريقة استعمالها، وما يولّده التجاور بينها من شحنات. الفكرة واحدة. فلماذا تدهشنا حين يتناولها فلان، ولا يحدث ذلك عندما يتناولها فلتان؟ يتعامل هذا الأخير مع الكلمات وكأنها جثث هامدة، أما الأول فيزيل عنها صدأ الاستخدام اليومي والعادي، ويملأها بشحنة جديدة تولد طاقة تعبيرية غير معهودة. أعود إلى السؤال السابق: "لمن تقرأ؟" فأقول: أقرأ لمن أجد لديه دائما ما يدهش، وما يثير الفضول، ويحفز على التفكير، ويفتح نوافذَ تطل على فضاءات معرفية مختلفة. كاتب يعلمني كيف أعشق الحياة، وأنظر إلى العالم بعين طفل تغمره الدهشة، ويخرجني من دائرة العزلة والانغلاق، ليضعني على اتصال مباشر مع جمال هذا العالم.