أوضح الشاعر والروائي عبدالله ثابت أن لا أحد بوسعه أن يفوق الشعر، وأن لا شيء خارجه، مشيراً إلى أنه يلح على ما هو إنساني فيه، على خباياه وتناقضاته، على وحشه ووداعته. وقال عبدالله ثابت في حوار مع «الحياة» إن وزارة الثقافة والإعلام السعودية منعت كتابه «الهتك»، الذي طبعته وزارة الثقافة في اليمن، من الدخول، فاضطر إلى إدخاله تهريباً على ظهر حمار. وأكد أن وسائل التواصل الاجتماعي تعتدي على شيء في معادلة الطبيعة بخصوص الكتابة، وما لم تكتمل هذه المعادلة فإن الناتج سيكون بلا معنى ومجرد ألعاب نارية. إلى نص الحوار: عشرة أعوام من الشعر والسرد والأسئلة.. كيف تقوِّم ركضك إلى الإجابات شعراً وسرداً؟ - هي عشرة أعوام من لحظة الإصدار الأول، لكن كدحاً وركضاً نحو الأسئلة سبقها بوقت ليس بالقصير، ولم يكن ركضاً نحو الإجابات إلا في بدايته، كما يحدث في البدء دوماً، ثم استحال إلى شغف ووله نحو الحملقة والتساؤل عن كل شيء وفي كل شيء، ولا سيما تلك الأسئلة التي لا تنتهي، من أصغرها حيال الكون والوجود وفكرة الخلق والخالق، وحتى أضخمها وأكثرها تعقيداً وفضاء ولا نهائية، حيال الأنا والإنسان والشعر. بمناسبة الإصدار الأول، أتذكر بأنني أدخلت كارتون نسخي الشخصية من كتابي «الهتك» تهريباً على ظهر حمار مع راجلة عبر الحدود، وأصدقاء تلك الرحلة ما زالوا أحياء، أتذكر هذه المفارقة وأضحك، ففي حين أن وزارة الثقافة اليمنية كانت طبعته حينها ضمن اختيارها لمئة عمل لمبدعين من أنحاء الوطن العربي كافة، واخترت من السعودية في فعالياتها لمهرجان صنعاء للشعراء العرب الشباب 2004، كانت إدارة فسح المطبوعات في وزارة الثقافة في السعودية منعت كتابي، ولم أجد وسيلة لإدخاله إلا بتلك الطريقة. كأنك لا تركن إلى التصنيف ولو على مستوى المرحلة.. فهل تكتب الآن ما يفوق الشعر ويجتاز أدواته؟ - لا شيء أو أحد بوسعه أن يفوق الشعر، لأنه لا شيء خارجه. ربما تنضج الرؤية والشعرية والأدوات مع الوقت، ربما تكبر المهارة وحاسة الالتقاط، وتتعمق المفاجأة والدهشة، وتصير كهرباؤك أثراً وكلمات، لكن من هذا الذي يكتب ما يفوق الشعر. أما التصنيف بمعنى القالب الذي يشترطك سلفاً فلا أركن إليه بالفعل، لا على مستوى المرحلة ولا أية مرحلة، هذا ضيق وشكلانية محضة. يبقى الإنسان مهموماً بقضية سلطته الخاصة، ولو على مستوى ما يملكه من مكان صغير وأشياء تخصه، فلا يقتحم دائرته أحد سواه.. فكيف تكتب في خضم هذا الحشد من التفاصيل للعمر والمحيط والمسؤوليات والعيش والوسائل الحديثة؟ - ألح على إنساني نفسه، على خباياه وتناقضاته، على وحشه ووداعته، وعلى مكامنه الطفلة وشراهته. ألحّ على القيمة والملامسة، على الصلة والتجربة، وأحاول أن أعيش على هذا النحو، أحاول أن أكتب. هل مات شاعرك؟ ما الأسماء التي تخاف خسارتها؟ - الشعر لا تحده الأسماء، الشعر ليس شخصاً كي يطاوله الموت. إنه الشعر فقط، والشعر مستعص على الفناء. الفناء ذاته شعر أبدي. هناك أصوات تنتشر كممحاة لما سبق، هي في الحقيقة لم تقرأ ولم تستوعب التجارب ولم تعرف ماذا تعني القراءة. فقط تكتب ولها فضاء وسائل التواصل الاجتماعي، مثل «فيسبوك» و«تويتر» وغيرهما، وشكلت ظاهرة لا يمكن تجاهلها.. كيف أثرت فيك تلك الوسائل؟ وكيف وجدت تلك الأصوات معك؟ - لا يمكن تجاهلها، لكن أيضاً لا يصلح ألا ننتبه إلى خطورتها الفادحة، ومحاولة فعل شيء إزاءها. هذه التقنيات تعتدي على شيء في معادلة الطبيعة بخصوص الكتابة، وهو تفاعل حصيلة ما لديه من التجربة المعرفية في اختبار الوقت، ومن ثم إنجاز إنسان ما هو محصلته ما لديه من تجربة واطلاع واختبار، يعرف عميقاً على الأقل ما يسمعه، ويدرك ما يعبر عنه. ما لم تكتمل هذه المعادلة فما الذي سينتجه هذا الاختلال غير أصوات بهلوانية، تجيد لعبة اللغة، لكنها بلا معنى غائص في المعنى! ما الذي ستحصده غير الألعاب النارية، التي ربما يحدث وتتقد، فترسم أشكالاً مبهرة في السماء، لكنها سرعان ما تنطفئ، تنطفئ مهما زفها صراخ الجمهور. أينك من صرخة إنسانٍ ما التقيته قط، ولن تجده على جغرافيتك؟ - الفنان ليس رسالياً، ولا يصلح لهذا. أرجو أني اشتغلت بالإنسان الذي في كينونتي، الملتصق بتعبه ومظالمه، بحق وجوده وتناقضاته. إن حدث ووجد في شخص ما، في جغرافية ما، شيئاً يغريه أو يعزّيه، فهذا يعود إلى معنى وسحرية الفن وأثره، ليس لرساليته. الفن يرفض في جوهره الخلاص والمخلصين. لماذا تتعدد شعراً وسرداً ونثراً؟ وجميعها لها صوت يكابد؟ - بل لماذا لا يتعدد من يكتب؟ لماذا لا يخلق تجربته ومتاهته؟ بل ولماذا لا يخلق فوضى ما في وجه هذا السائد إن استطاع؟ أي سؤالٍ بغير لماذا لا تفعل فهو خنق للأفق، خنق للمحاولة. ما إضاءتك التي تنتظرها دوماً؟ - لا أعرف، إنني أسعى في خلق القطع التي ستنتهي يوماً جراء إلصاقها مع بعضها ببعض إلى شيء ما. لك أن تصحح. «عبدالله الكتاب القادم يطفئ عبدالله الكتاب السابق». - لا شيء يطفئ شيئاً، التقلّب والتجريب موهبة الحي الذي لا يرضى. لأنك حي تفعل، ولأنك لا ترضى تمحو، ومن بينهما الحي فيك، والمحو الذي تقيم صرامته على حياتك، تقول شيئاً وتختبر نفسك في أثره. كيف تقرأ المشهد؟ من يليق اليوم بالتجاوز وحظ الرجع البعيد من دون سواه؟ - صدقاً ولابتعادي وقلّة متابعتي لا أملك أدوات كافية لأجيب عن سؤال مثل هذا، لكني أظن -وفيما أراه- أن علي الشدوي وآخرين في الرواية وأحمد الملا وآخرين في الشعر قليلو الحظ لكنهم لائقون بالتجاوز. ماذا تعوّل على دور النشر ومؤسسات التوزيع العربية، وأنت تبذل الكثير لتعدد أشكال حضورك ونشر صوتك ووجود كتابك؟ - أعوّل على وظيفتها الوحيدة التي تقوم بها، وهي تقديم كتابتك لا أكثر، لا تعويل أبعد من هذا، لأنه لا توجد مؤسسات نشر عربية احترافية حقيقية، على شاكلة نظيراتها الموجودة في الغرب، التي تقدم -على سبيل المثال- عقوداً احتكارية، بمداخيل مادية منتظمة، يستطيع المؤلف من خلالها أن يؤمن رزقه، هل هناك أية دار نشر عربية تقوم بعمل كهذا؟ الواقع أن المؤلفين يلاحقون بصيص حقوقهم المادية. شخصياً حصلت على مقابل من ترجمتين لكتاب واحد في الغرب أضعاف أضعاف ما حصلت عليه من جميع كتبي عند الناشرين العرب لأعوام. يقول أرسطو: «يسهل خداع الشباب، لأنهم يستعجلون الأمل»، ماذا يمكن أن نقوله فيما يحدث في الوطن العربي وانسحابه على الفن والإبداع؟ - سأجيب عن انسحاب مقولة أرسطو أنه «يسهل خداع الشباب، لأنهم يستعجلون الأمل»، على الفن والإبداع فقط، لأن حقيقة ما يحدث اليوم -أعني ثورات الشباب- في الوطن العربي غير مفهومة ولا واضحة كفاية بالنسبة إليَّ، ولا أستطيع الوثوق بأي رأي مما يكرسه أصحابه لتكوين صورة مترابطة وأكيدة ونهائية عنها وحولها كتحليل لها، مهما قدّم كل طرف من الشواهد والأدلة لمصلحته، مع التقاء بعضها بعضاً أحياناً. أما انسحاب مقولة أرسطو على الفنون والإبداع فزد عليها كلاماً مثله لبورخيس، فحواه أن آفة المؤلفين الشباب أنهم يستعجلون النجاح. يقول محمود درويش: «الرواية هي الشكل الثقافي الأول الآن في العالم، وأنا أرغب في كتابة رواية، وأغبط الروائيين... والحلم بأن أصحو يوماً فأجد الرواية بجانبي، أتمنى لو أكون روائياً». أنت شاعر وكتبت الرواية.. كيف تعلق على مقولة درويش؟ - أقول كقارئ ليت درويش كتب رواية، كلنا خسرنا أنه لم يفعل. تخيل أي شيء كان سيكتبه درويش بلغته وحصيلته ومخيلته وتجربته وعالمه الكبير الكبير، لكن في ظني أن هذا الشاعر العظيم لم يكتب الرواية ليس لأنه لا يستطيع مجازفتها ولا صبرها، وهو بكل ما لديه من ذخيرة الحياة ولحظة التاريخ، بل لأن أدواته التامة هناك، في الشعر وفي العرش الذي تمكن منه، وأقدّر في قراءتي لعبارته هذه أنه أشار ضمناً إلى رغبة أن يكون أقل، وأن كل كتابة سيذهب إليها غير قصيدته، والتي صارت علامته ونفَس رئتيه وفيض ضحكته وكوابيسه، ستجيء أقل وأوهن. في ظني أنه ليس درويش من لا يملك الصبر والمجازفة، هذا تواضع ذكي، إنه درويش الذي ما كان ليقبل بمجازفة كتابة أخرى، لا تبلغ هيمنته في القصيدة، مهما كانت عالية. أيكتب «طباق إلى إدوارد سعيد»، وهو لا يستطيع أن يجعل من تفاصيلها رواية.