هل كان غوستاف فلوبير يعرف، وهو يكتب مئات الرسائل التي بعث بها طوال حياته أن تلك الرسائل ستنشر، وبالتالي ستقرأها أعداد كبيرة من الناس؟ أم أنه كان يكتبها وهو معتقد أن النسيان سيطويها وأن ما كتب فيها ستذروه الرياح بعد أن يقرأها المرسلة إليه؟ بكلمات أخرى: حين كان فلوبير يكتب رسائله هل كان يكتبها لشخص واحد أم لجميع الناس؟ قد يبدو هذا السؤال في غير محله هنا طالما أن من المتعارف عليه أن الرسائل - حتى وإن كانت رسائل أهل فكر ومشاهير - انما تكتب وسط حميمية مطلقة ثم لاحقاً فقط، وغالباً من دون معرفة الكاتب أو إذنه حتى، تنشر الرسائل ملقية على حياة هذا الأخير أضواء تفسر مجرى تلك الحياة، بل تفسر أيضاً ظروف كتابة هذا العمل أو ذاك أو قيام الكاتب بتصرف من التصرفات. والحال أن هذا الأمر يضعنا مباشرة في مواجهة هذا النوع الكتابي الذي بات لا غنى عنه لدراسة كاتب من الكتاب أو نجم من النجوم أو أي مشهور آخر من المشاهير. وغالباً ما تكون الرسائل على موعد جدي مع الباحثين إذ تزوّدهم بما لم يكونوا يتوقعون، وكأن كاتبها رمى على صفحاتها ألوف العلامات المضيئة ووضع فيها ما لم يجرؤ على وضعه في أعماله الأخرى، كما ملأها - في معظم الأحيان - صدقاً لا يوجد في بقية أعماله المكتوبة أصلاً لتوجه الى الجمهور العريض. من هذا النوع، إذاً، رسائل غوستاف فلوبير. إذ سواء كتبها صاحب «مدام بوفاري» ليقرأها المرسل إليه، أو لتنشر لاحقاً وتقرأ على نطاق واسع، فإنها كتابات لا بد من قراءتها لأي شخص يريد أن يدرس حياة الرجل وكتاباته حقاً. والحال أن جان - بول سارتر، على سبيل المثال، ما كان في وسعه أبداً أن يضع دراسته المهمة عن فلوبير «أحمق العائلة» لو لم يقرأ رسائل هذا الأخير ويدرسها بعناية، تاريخياً وسيكولوجياً، جاعلاً منها دليل تحركه في ثنايا حياة الرجل وكتاباته. ورسائل فلوبير هي على أي حال، إضافة الى رسائل فولتير، تكاد تكون الأشهر بين هذا النوع من الكتابة في فرنسا. بل ثمة من يفضل رسائل فلوبير على أعماله الأدبية إذ «صحيح، يقول بعض هؤلاء، أن فلوبير لم يسع الى أن يجعل من هذه الرسائل أعمالاً أدبية فنية، خصوصاً أن أسلوبه في معظمها يبدو حاسماً، سريعاً وعنيفاً، بل أحياناً أخرق، ولكن صحيح أيضاً أن في هذه الرسائل من الحميمية والحيوية ما يضعها في مكان مرتفع جداً، وفي مكان يسمو كثيراً على معظم أعماله الأدبية». رسائل فلوبير هذه نشرت في أربعة مجلدات بين عامي 1887 و1893، أي بعد سنوات من رحيل الكاتب في عام 1880. ولقد نشرت يومها مسبوقة بنص عنوانه «ذكريات حميمة» كتبته كارولين كومانفيل، ابنة أخت فلوبير، التي أوردت في النص «جملة معلومات ثمينة» حول الكاتب وحياته ودقائق شخصيته. والحال أن تلك المجلدات الأربعة ظلت تنشر في طبعات لاحقة ويضاف إليها دائماً ما يكتشف من رسائل كتبها فلوبير بدءاً من عام 1833، يوم كان في الثانية عشرة من عمره وحتى أعوامه الأخيرة، ومعظمها كان موجهاً الى أصدقاء له، والى أهل وكتّاب، والى نساء أحبهن. والحقيقة أن إجمالي هذه الرسائل، وإذ كتبت انطلاقاً من كل مكان عاش فيه فلوبير، وفي كل زمن عاشه من دون انقطاع، يشكل سيرة أخرى حقيقية له، طالما انه في رسائله كان يصف مشاعره ومشاهداته وقراءاته ويورد ملاحظاته وتفاصيل لقاءاته. والطريف هنا هو أن الحياة الخارجة عن حياته الخاصة لم تكن تهمه على الاطلاق. إذ نادراً ما كان في رسالة من الرسائل يتوقف عند حدث تاريخي مهما كانت ضخامته. ما يهمه كان حياته الخاصة لا سيما حياته الإبداعية، والتعبير عما كان يدهشه ويفاجئه، ويقيناً أن أحداث «العالم الخارجي» لم تكن لتفاجئه على الاطلاق ولم يكن فيها ما يدهشه. ولعل من أجمل صفحات تلك الرسائل، ما كتبه فلوبير حول الرحلة التي قام بها الى الشرق - مصر خصوصاً - برفقة صديقه الكاتب والمصور مكسيم دوكان... إذ هنا يصل وصف فلوبير الى ذروته في أعوام (1849-1851) كان فيها قد تمكن من أسلوبه وباتت عيناه قادرة في شكل جيد على رصد ما يحيط به. ولا تضاهي هذا، بالطبع، سوى الرسائل التي خطها قلم فلوبير، من حول المحاكمة الرسمية التي جرت ضد روايته «مدام بوفاري» إثر نشرها في «مجلة باريس» في عام 1857، ففي هذه الرسائل تنافس سخرية فلوبير ومرارته، دقة وصفه لما يحدث ودهشته أمام محاكمة لا يرى لها أي مبرر، ما يجعله يغوص في تفاصيل واقع اجتماعي وقضائي ينظر باحتقار وترفع. وطبعاً لعلاقات فلوبير الغرامية رسائلها أيضاً... لكنه هنا يبدو أقل ثرثرة من المعتاد، إذ نادراً ما نراه يعبر عن عواطف معينة حتى ولو كتب الى حبيبة مثل لويز كوليه... ففي مثل هذه الرسائل كان من الواضح أن فلوبير مهتم بالحديث عن قراءاته ومشاريعه الكتابية والحياة الاجتماعية التي يعيشها أكثر بكثير من اهتمامه بالتعبير عما في داخله. ولعل هذا النوع من الاهتمام في هذا النوع من الرسائل هو الذي يدفع الى طرح السؤال تلو السؤال حول ادراك فلوبير المسبق بأن هذه الرسائل ستنشر يوماً، وبالتالي ليس عليه أن يعري نفسه أمام من سيقرأونها... أو لعله الخفر الذي طبع به وتحدث عنه سارتر كثيراً في كتابه. إذا، في شكل إجمالي، الذين يسعون الى معرفة تفاصيل حياة فلوبير الغرامية من خلال هذه الرسائل سيبقون على ظمأهم بالتأكيد. ولكن في المقابل سيقيض لهم البحث الدقيق أن يدركوا كل تفاصيل شغف هذا الكاتب بكل ما له علاقة بالفن. وليس فن الكتابة وحده. إذ أن الفن التشكيلي مميز في الرسائل، كما أن ثمة مكاناً مميزاً أيضاً للكتّاب الجدد، الذين كان فلوبير يكتشف وجودهم فيكتب في رسائله عنهم... بل أحياناً يكتب إليهم أيضاً. وهنا في هذا السياق سيكون ممتعاً تفحص الرسائل التي وجهها فلوبير الى ذلك الكاتب الشاب الذي كان يعلن بنفسه انه تلميذ نجيب لفلوبير، ونعني به غي دي موباسان. ففي رسائل فلوبير الى هذا الأخير يمكننا أن نواجه ما يمكن اعتباره، أول نظرة نقدية جدية الى أدب موباسان... حيث يعبر فلوبير، في خط توجيهي واضح، عن «ضرورة التوحد الكلي بين الفكرة والشكل الفني الذي يعبر عنها»، مضيفاً أن «على الفنان أن يكون في عمله أشبه بالمبدع: انه يكون لا مرئياً ولكن له من القوة ما يجعله حاضراً في كل مكان من دون أن يراه أحد». إذاً، لدينا كل شيء في هذه الرسائل... أو تقريباً كل شيء. ولدينا أيضاً جواب واضح لذلك السؤال الذي طالما طرحه النقاد ومؤرخو الأدب على أنفسهم: هل يمكن للرسائل من هذا النوع أن تعتبر نوعاً أدبياً؟ ولسنا نعتقد أن علينا أن نوضح الجواب. فغوستاف فلوبير (1821-1880) أوضحه هنا عملياً، في مئات من الرسائل والصفحات عرفت كيف تحتل مكاناً مهماً في تاريخ أعماله، وفي تاريخ الأدب في شكل عام، الى جانب أعماله الأدبية الخالصة مثل «مدام بوفاري» و «التربية العاطفية» و «مذكرات مجنون» و «نوفمبر» و «سالامبو» و «إغواء القديس انطوان». [email protected]