وصفت الشاعرة والكاتب سعدية مفرح أن الكتابة التي كانت بلسما تداوي بها أوجاعها، تتحول في العديد من الحالات الكتابية إلى مجرد الكتابة بمجرد ما كان من حب للكتابة، واصفة أن كتاباتها الغارقة في المأساة، لا تأتي باختيارها، وليست سعيدة بتراجيديتها، إلا أن ما يرفضه الكاتب والكاتبة في أحيان كثيرة يتسرب إلى كتاباتهم دونما شعور، كاشفة في هذا الحوار اللثام عن كثير من المعاني في حياتها التي قالت عنها: شُغلت بتفسيرها زمناً واكتشفت أنها تسربت إلى قصائدي بشكل مغاير للسائد. * من يكتبك أستاذة سعدية.. أنتِ أم الوجع؟ ولماذا هذا الإسراف في المأساة الشعرية بدواوينك؟ - كنت في السابق أبتكر إجابات كثيرة على هذا السؤال عندما يوجه لي بصيغ مختلفة، أقربها الى نفسي أنني أكتب لأكتشف ذاتي، أو لأجدني بين ركام الشخصيات المكونة لي ربما، ومنها أيضا أنني أكتب لأتداوى من كل أوجاعي وعقدي النفسية أيضا. فالكتابة وخصوصا كتابة الشعر تملك تلك الخاصية دائما. لكنني في الأونة الأخيرة أكتشفت أنني اكتب فقط لأنني أحب الكتابة، وأن كل الأسباب التي كنت أسوقها ما هي إلا نتائج لاحقة لا أسباب. الشغف وحده يقودني الى الكتابة وأنا أستجيب لشغفي. صحيح أن غالبية كتاباتي كما لاحظ الآخرون قبل أن ألاحظ أنا غارقة في المأساة لكن هذا لا يسعدني كثيرا، فأنا أحاول أن أعيش الفرح أكثر مما أعيش المأساة، وغالبا ما أنجح في تجاهل شعوري بالوجع أو بالحزن في حياتي بشكل عام لكن يبدو أن ما أتجاهله في ممارساتي اليومية ينجح هو في التسرب نحو كتاباتي من دون أن أشعر؛ ولعل هذا يشجعني على المضي في حلمي بكتابة مغايرة دائمة. ومن يدري ربما أجدني وقد كتبت الفرح والأمل كما هي أحلامي وأمنياتي.. صحيح أن أحلامي قد تواضعت كثيرا في السنوات الأخيرة، لكنها لحسن الحظ لم تمت، وربما لأنني انتبهت لتواضعها ووثقته شعريا في كتاب عنونه "تواضعت أحلامي كثيرا"، فقد نجا الكثير منها بالإضافة إلى ما توالد منها ومن استجد. نعم أنا امرأة أجيد صناعة الأحلام كما يبدو، وهذا يجعلني مستمرة على قيد الشعر. * هل يمكن للقصيدة التي كَتبتِها في آخر الليل، أو أثناء تطلعكِ في السماء متأملةً في خيباتكِ الصغيرة، أو وأنتِ تقرأين كتاباً قديماً ممُلاً مرميا في أحد صناديقكِ الخشبية اشتريتهِ في يومٍ لا تذكرينه، أن تعيدكِ إلى نفسكِ بشكلٍ أوضح؟، بشكلٍ يجعل ذاتكِ تتصافح معكِ وكأنكما تتعرفان على بعض لأول مرة؟ هل صحيح أننا باللغةِ كما يقول محمود درويش نعيد فهم أنفسنا وعلاقتنا بوجودنا وعالمنا ولأي مدى يمكن أن نصبح بسبب لغتنا مجرد كارثة على القارئين لنا بسبب فرط أحزاننا؟ - نعم.. يحدث هذا كثيرا، وتوصيفك للحالة في سؤالك أجمل من إجابتي المنتظرة، فشكرا على هذا التوصيف الجميل ودعني أضيف أن اللغة بالنسبة لي شخصيا رفيقة درب، وأحيانا أشعر أنها أختي فعلا بهذا المعنى، أتحدث بواسطة اللغة عن اللغة وكأنني أحاول أن أكتشف من خلالها ما لا أعرفه عن نفسي، كتبت ذات يوم مقالا بعنوان "نحن نتكون باللغة"، وكنت أعني أنها جزء أصيل من تكويننا، وأنا لا أعني باللغة اللغة المحكية أو اللغة المكتوبة.. لا أعني تلك الوسيلة التي نتفاهم بها ومن خلالها مع الآخر وحسب، بل أعني كل علاقة لنا مع الآخر وبغض النظر عن هذا الآخر سواء أكان بشرا أن غير ذلك.. حتى المكان أحتاج أن أفهم لغته قبل أن اعرفه وأتفاهم معه وأحكي أيضا له وعنه. * قُلتِ: "أحيانًا أشعر أنني مجرد حلم، وأن أحدًا ما في هذا الوجود يسعى لتحقيقي، وأنّه لم ينْجح حتى الآن".. من تنتظرين؟ وهل لهذه الدرجة ورغم حجم العالم الكبير لم يمنحكِ ولو على سبيل الصدفة حُلماً راهنتِ على تحقيقهِ يوماً أو تحرراً يُخبركِ بأن الفضاء لم يعد أقفالاً وقضبانا؟ - لا أنتظر أحدا.. انتظرني فقط، لا أحب فكرة الانتظار ولا أمارسها، بل لعلي أتجاهل أن أسمي ذلك الفعل الذي أقوم به أحيانا بأنه انتظار. فالمنتظر لا يأتي، وإن أتى تكون قد فارقتني دهشة استقباله أو اكتشافه وأنا امرأة أعشق الدهشة وأحاول تمرير كل أسباب سعادتي من بوابة الدهشة، والدهشة ضد فكرة الانتظار. لذلك لا أنتظر احلامي لكي تتحقق لكنني أتوقع أن تتحقق من خلال دهشة ما. ثم من قال لك أن العالم كبير إلى هذا الحد؟ أشعر به أحيانا وكأنه بحجم كرة قدم.. تتدحرج بين أقدامنا بانتظار أن يدخلها أحدنا إلى المرمى.. ولاحظ أن كرة القدم كثيرا ما دخلت المرمى بالصدفة أم ربما بقدم من أقدام الفريق الخصم. وهنا تكمن دهشتها الإضافية. * "تاريخنا يكون لطيفاً معنا إن نحنُ كتبناه بوداعه".. هكذا يقول فرانسيس بيكون، أنا شخصياً حين قرأت كتابكِ المعنون ب "نحو سيرة ذاتية ناقصة "استبعدت كلمة "لطيفاً" ووجدت بأن الحالة الكتابية بينكِ وبين تاريخك هي وعلى حد تعبير فرويد ارتدادٌ على ذاتك بكامل أطواره وإن كان بصورة إبداعية فائقة، ألا تتوقعين بأن التشاؤم أثناء الكتابة هو شيءٌ بسيط ولا يتطلب سوى الاستماع لأغنية حزينة واسترجاع بعضُ المواقف المؤلمة، بينما الكتابة دون كآبتها تتطلب قليلاً من الجرأة والكثير الكثير من التمثيل؟ - لست متشائمة على أية حال، ثم إنني لا أملك ما يكفي من الجرأة للكتابة عن الذات كما ينبغي وكما أحلم، ولا أملك من موهبة التمثيل مما يجعل الأمر يبدو وكأنه الصدق المطلق..ولا أريد،لا أظنني قادرة لهذه الأسباب على كتابة سيرتي الذاتية، والمشكلة في السيرة الذاتية تحديدا أنها تحتاج الى صراحة وجرأة شديدتين ويهون الأمر لو أنه يتعلق بالكاتب وحده لكنه يتعداه لمن حوله من الآخرين، فنحن لا نعيش لوحدنا في مجتمعاتنا بل إننا نعيش في دوائر متشابكة من البشر لا بد أنهم ساهموا في تكويننا النفسي قبل تكويننا الثقافي والاجتماعي، ولا بد أن أثرهم هذا سيظهر علينا ولا بد من الإشارة إليه بصدق تام حين نريد الكتابة عن السيرة الذاتية.. أنا لا أجرؤ ولا أريد الآن. على الرغم من أنني مؤمنة بأن كل سيرة ذاتية تستحق أن تكون مادة لنص إبداعي، بل إنني مؤمنة بأن كل نصوصنا الإبداعية بغض النظر عن نوعيتها ما هي إلا رؤية من مجموعة الرؤى المكونة للسيرة الذاتية بشكل عام. * "ذاكرة الموت اسمها الحياة.. وحياتي تقول لموتي: أحبك...فلولاك لعشتُ دون أن أحيا؟"...هكذا كانت تفسر غادة السمان، أبرز صوت نسائي، الموت وحضوره الأزلي على أرواحنا واستلابه لمدّخراتِ أيامنا، أستاذة سعدية كيف سترين هذه المعاني القبلية (الموت،الحياة،الخوف،الحب...إلخ) لو لم تكوني شاعرة؟ - لا أظن أن رؤيتي ستختلف كثيراً لو لم أكن شاعرة مثلا.. أنا حتى وأنا شاعرة، وهذه صفة ما زلت أشك فيها كثيرا ودائما، لا أعرف بالتحديد ما هي رؤيتي لكل هذه المعاني.. أنا أعيش هذه المعاني فعلاً من دون تفكير مسبق في ماهيتها، شُغلت بتفسيرها زمناً واكتشفت أنها تسربت إلى قصائدي بشكل مغاير للسائد.. الموت مثلاً لم يعد ذلك المعنى الأسود المخيف بل تحول منذ أن فقدت أغلى البشر في حياتي إلى كائن جميل ليليق بمن فقدت، فالجمال وحده ينبغي أن يكون خاتمة من أحب، وبالتالي لا ينبغي للموت أن يخيفني، رحلت والدتي رحمها الله وهي في حضني وكان نظرتها الأخيرة لي أعمق نظرة رأيتها في حياتي، وكانت ابتسامتها الأخيرة في وجهي أجمل ابتسامة يمكنني أن أتخيلها. تسربت هي إلى الموت ولم يتسرب إليها، صعدتْ إليه بتسامٍ يليق بجمالها وخفة روحها التي أسلمتها بهدوء وبساطة وأناقة أيضا، فغاب جسدها عني لكنها بقيت رغم الموت حاضرة في كل تفاصيل حياتي، فكيف يمكن لموت كهذا أن يكون مخيفا مثلا؟