من القضايا الصعبة التي تواجه سياسات التعليم واستراتيجيات إصلاحه وتنميته، (الأدلجة الفكرية) التي تجعل الناس منشغلين دائما حيال أي قرار إصلاحي تعليمي (كتعيين وزير، أو السماح بممارسة الرياضة في مدارس البنات، وغيرها..)، تجعلهم منشغلين بتصنيف هذه القرارات بين مدى موافقتها من عدمه للتيار الذي يقود عقولهم. وتنقسم التيارات الفكرية بشكل عام داخل معظم المجتمعات العربية ونحن منها إلى طرفين متضادين يتعاكسان في التوجهات ويثيران التضارب في الآراء بين العامة، كما أن بعض الأفراد المنشقين عن هذين التيارين أو الذين يقفون بحياد منها ليسوا بحال أفضل من التابعين أو المنقادين لها، فهناك ثقافة أيدلوجية تحكم تفكيرهم وتوجهاتهم رغما عنهم وبلا وعي منهم، فهم قد فصلوا مقاسا معينا للدين «يعتقدون باعتداله» وما لا يتناسب معه لا يقبلونه.! وفي هذا الجو الفكري المشحون بالاتهامات والتربص للآخر والاعتقاد الجازم بالتفرد بالحقيقة، يصعب تسيير الاستراتيجيات الإصلاحية بمرونة، فأي إصلاح منشود سواء اقتصاديا أو تعليميا أو حتى اجتماعيا هو للناس ويصنع من خلالهم، فإن كانوا بأنفسهم معطلين له فمن سينقذهم من ذلك.. علينا الخجل من أن يكون متفشيا فينا سلوك التحريض والإدانة المسبقة لأي مسؤول يتم تنصيبه، وأن يتم تطويقه بالاتهامات تحت مبدأ أنت متهم حتى تثبت عكس ذلك!! هذا السلوك الذي يدفع كل مسؤول أن يفتتح كلمته الأولى للجمهور بعد تعيينه بتلك «الديباجة العتيقة» التي تؤكد أن كل الخطط والاستراتيجيات القادمة لن تتنافى مع تعاليم الشريعة الإسلامية، متناسين أن العقول المؤدلجة لا تفهم تعاليم الشريعة الإسلامية بصورتها الحقيقية التي تكفل تنظيم الحياة العامة للناس، إنما تفهم تلك الشريعة والدين الذي يجاوره شوائب العادات والأعراف والأهواء البشرية ومجموعة القيم والتوجهات المعطلة للتنمية وتقيس عليه.. لن تفلح سياسات الإصلاح بشقيه الاقتصادي والاجتماعي طالما أن فئة عريضة من أفراد المجتمع سجينة لبعض التوجهات والسلوكيات التي تخيل لها أنها عندما تسب ذلك المسؤول أو ذلك القرار إنما تذود عن الدين والأخلاق الفاضلة، أو أنها عندما تقدس ذلك الداعية وتدافع عنه فهي تظهر محبتها وتعظيمها للدين.. العقول الحرة هي التي لا تبني تصورات وأحكاما مسبقة عن الأشخاص أو القرارات قبل التعرف عليها، كما أن الأفراد الأسوياء نفسيا هم المتحررون من عقدة النظرة السلبية لكل القضايا والمشاريع الخاصة بالتنمية الوطنية، وهم الذين يقيمون النتائج بحيادية ويملكون منظارا جيدا يوضح الجوانب السلبية والإيجابية معا.. أعرف أن تعويد الناس على تفحص الأمور بمنطقية والابتعاد عن العاطفة والتخلص من العقد الفكرية أمر صعب يحتاج إلى جهود فاعلة تستهدف على الأقل الأجيال الصغيرة بمناهج واستراتيجيات تعليمية دقيقة، لأن تعليم الكبار واستهدافهم لهذا النوع من التغيير سيحتاج زمنا طويلا يفوق سنواتهم التي تربو فيها على هذا الخلل، ولن تفلح قنوات التوعية والإعلام بكافة سبله إلا بقدر يسير ربما تختلف معه هذه النمطية الفكرية السائدة. وإلى من يتحدث باسم الدين في كل قضاياه وإلى من يتحدث باسم حرية الفكر نقول ليس من أخلاق الدين ولا من أخلاق حرية الفكر كيل الاتهامات والحديث بنبرة الوصي المطلق على قضايا المجتمع، ونقول لمن ابتلي بداء التبعية لهؤلاء؛ تدارك عقلك ولا تسلمه لأحد.