تأخذ لقاءات الرياض المكثفة سياسياً وحتى امنياً سواء المتمثلة بلقاءات وفود المعارضة السورية أو في اللقاءات الأخرى التي تشهدها الرياض من اجل الحلول المطلوبة للملفات الاقليمية المعقدة أهمية خاصة في السياق الدولي الذي تحضر فيه الرياض بدور أكبر من مجرد كونها ساحة تنسيق أو لقاءات يجري التفاهم المسبق فيها على الحلول. هذا الخط في وضعية المملكة العربية السعودية له إرث سياسي، بدأ منذ قيام المملكة العربية السعودية الثالثة، والتي دخلت عبر أكثر من قرن وعقد من الزمان بملفات وساطة سياسية أنهت الكثير من الصراعات السياسية التي كانت تعطل استقرار المنطقة العربية والإقليم، وفي القاموس السياسي الخارجي السعودي مفردات كثيرة لاتفاقيات ولقاءات منسوبة للجهد السعودي في السياسية الدولية ومنها اتفاق الطائف عام 1989 بخصوص الأزمة اللبنانية والذي شكلّ حلاّ سياسيا لسنوات طويلة من الصراع وبقي حتى اليوم سقفاً لمعادلة السياسة والحكم في لبنان، وهو الذي مهّد لبقاء الرأي السعودي والمشورة كطرف داعم للسنة والمسيحية العربية في لبنان اليوم في مواجهة تغول إيراني واضح أنه يستهدف تقويض الإرث السياسي الضامن للسلم في لبنان والذي ظلّ وفياً للدور السعودي الذي اسهم فيه. ثم كانت مساهمة السعودية في طرح مبادرة السلام العربية في آذار 2002 في قمة بيروت، للسلام في الشرق الأوسط بين إسرائيل والفلسطينيين بهدف إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليًا على حدود 1967 وعودة اللاجئين وانسحاب اليهود من هضبة الجولان المحتلة، وبعد ذلك كانت المبادرة السعودية لحل الخصام بين الأشقاء في فلسطين بعد انقسامهم إلى معسكرين وسلطتين تنفيذيتين عام 2007 عقب سيطرة حماس على قطاع غزة والسلطة على الصفة الغربية. وفي زمن الربيع العربي، لم تقف المملكة على شرفات الانتظار، بل بادرت لاستعاب الظرف الدقيق بوعي، وادركت قيادتها مخاطر الراهن، وأخذت دورا رياديا في دعم الدولة الوطنية العربية لكي لا تنهار فدعمت مصر واليمن وطالبت بحل سياسي في سوريا قبل عسكرة الثورة، وكان تدخلها في اليمن ضمن المبادرة الخليجية التي انتهت في 23 نوفمبر 2011 في الرياض بالتوقيع على خطة للانتقال السياسي رسمتها المبادرة الخليجية التي بدأت في شهر أبريل 2011 بدافع تهدئة ثورة الشباب اليمني للوصول لحل سلمي يضمن استقرار اليمن. وما زالت السعودية ترعى الحل في اليمن ومن خلال منظومة مجلس التعاون الخليجي والتحالف الدولي لاعادة الأمل. في المسألة السورية تعود الرياض اليوم لمركزية الحل، عبر توضيب مطالب المعارضة، أملاً في الوصول إلى انسجام واتفاق بين جميع الاطراف كي يصل اهل المعارضة إلى وثيقة تأسيسية يمكن الاستناد إليها كأرضية للحوار الأممي أو الدولي مع النظام وبما يعجل برؤية الأفق السوري الممكن سياسيا بعد خمسة أعوام من الصراع والدمار، وفي الخبرة السعودية مع السوريين والمعارضة وفي الملفات المعقدة ما يكفي لكي يكون المخرج السياسي المنشود اليوم للحل السوري مقبولاً للجميع. دور الرياض ليس سهلاً في الملف السوري بفعل تعقدياته، وخيارات المعارضة التي تجمدت عند رأيين إما اسقاط الأسد ومنظومته الأمنية بشكل سريع وهو قول تتبناه الفصائل المسلحة، أو خيار المعارضة الوطنية المشكلة من الائتلاف الوطني السوري وقوى سياسية أخرى تضع بيانات جنيف سقفا لها بتشكيل هيئة حكم انتقالية سياسية تمارس كامل السلطات والصلاحيات التنفيذية، بما فيها سلطات وصلاحيات رئيس الجمهورية على وزارات وهيئات ومؤسسات الدولة التي تشمل الجيش والقوات المسلحة وأجهزة وفروع الاستخبارات والأمن والشرطة، على أن تصل في النهاية لتغيير النظام السياسي والإطاحة برموزه واجهزته الأمنية والانتقال الديموقراطي السلمي للسلطة. ومعنى هذا أن الطرفين لا يريدان الأسد في المستقبل السوري القريب ولا البعيد، وهو مطلب بات يصطدم بقلق غربي بانخفاض في التأييد بعد التهديدات الإرهابية للغرب والتي غيرت في الخيارات السياسية وجعلت الغرب يرى أن بقاء الأسد يمكن أن يكون ممكنا في مرحلة اولية من الحل، وهو ما تدافع عنه روسيا بشراسة باعتبار أن مسألة بقاء الأسد أمر لا يقرره أحد غير الشعب السوري. في ظل هاتين الرؤيتين للمستقبل السوري، ثمة اجماع على تغيير في وجه سوريا السياسي لدى الذين حضروا للرياض من أجل التنسيق للوصول لوثيقة تأسيسة للحل والتفاوض، لكن هذه الوثيقة تصطدم بتعقيد الأوضاع وكثافة التدخلات الدولية على الأرض السورية، إذ تزداد روسيا حضورا على الأرض، وترفض إيران زحزحة الأسد وفي جعبتها أوراق سياسية تفاوضية خارج سوريا كما في اليمن ولبنان. وبالتالي فإن وصول سوريا إلى حالة «البلقنة» بات أمراً واقعاً في ظل استعصاء الحل وفشل الرعاية الأممية التي تعاقب عليها ثلاثة مناديب للسيد بان كي مون منذ كوفي عنان ووصولاً إلى ديموستورا ومروراً بالأخضر الابراهيمي. صحيح أن للرياض نجاحات كبيرة في السياسة الخارجية وفي ملفات معقدة، ولها ثقل سياسي وازن، وهي نجحت في قدرتها على جمع كل اصوات المعارضة في مؤتمر الرياض الذي ضمّ أكثر عناصر المعارضة تأثيراً، فلعلها تكون قد نجحت بشكل فاعل في التهيئة للأرضية السياسية الممكنة للتفاوض على الحل السوري الممكن والذي برغم طول أمده وآثار الصراع المدمرة والتي أحالت سوريا إلى خرائب ودماء إلا أنه بات يكسب تأييداً عالميا للتعجيل في الوصول إلى تسوية سريعة من اجله.