أمام الحاضرين وضع أوراقه على طاولته والضوء يخدش بصره، وبدأ بدون السلام، وقال: على المثقف الحديث أن يتخلص من تراكمات التعود، وتقليديات التراث؛ فالثقافة «في ظنه طبعا» يا أخوان هي مقام خاص بصاحبه فيه يتجرد من كل شيء حتى روحانياته المستهلكة، وفرائضه الاعتيادية، وينطلق نحو أفق ممتد، فلا قيود تكبّل، قال مداخلا: والدين. رد عليه والظلام يعتقل بصيرته: "يبقى حالة ثقافية في جوانبه"، تساءلت داخلي حينها لمَ لا يجتمع كل خير مع بعضه. لفت انتباهي ما حدث وجعل رأسي يدور في أن تعريف المثقف وتحرير مصطلح الثقافة مؤكد أنه خيار مشكل، وجدل مبطل، ولم يتخل المثقف أو غيره عن البحث عن مفقود التعريفات، وعن تعريف المفقود في التثقف المقصود، والذي يحاول الاتجاه إليه، وتبقى جدلية الطرح في مساحات من عدم التوافق، ومسافات من عدم الاتفاق، فالثقافة في ذهن المثقف المزعوم هي أحادية الاتجاه، وسياق فردي، وفي ذهن غير المثقف المزعوم أيضا هي تميز يصعب التعاطي معه، حيث تبقى معزولة تلك الثقافة عن واقعها. ولعل ما يمتزج فكرا وفهما ونقلا في واقع ثقافي ما، فيظنه الكثير، هو انفصال المثقف عن سياق الدين بدعوى ثقافته التي يظن من خلالها أنها يجب أن تكون كذلك، فالدين عند أمثال هؤلاء يؤدلج التفكير ويحدد الاتجاه بينما الثقافة يجب بزعمهم أن تكون مصدر تنوير متحرر، وتغذية متدفقة بلا ترشيح. من هنا ينطلق بعض المثقفين في مسارات مختلفة وقد يقود بعض محبي الثقافة والمعرفة إلى زوايا أدلجة الثقافة نفسها، ويتشربون من هنا أن سياق الثقافة هو منفرد تماما عن واقع محاط بتعاليم معينة. بعض المثقفين المتحمسين لهذا اللقب يحاولون التوجه بدافع ثقافي مجرد من أي دوافع ونوازع أخرى مكبلة، حيث يسمحون لأنفسهم بالخوض في متاهات متعددة، ويبررون لذواتهم الدخول في كل دائرة يمكن أن تعرفها الثقافة وتحتويها. ويظن البعض أن الشخص المتدين، أو المحافظ لا يمكن أن يكون مثقفا مجردا فهو مغلف بقيم قد تتصادم ببعض الأطروحات الثقافية، ولعلنا نتذكر حينها ابن تيمية رحمه الله الذي كان فقيها وعالما راسخا، ومع ذلك فقد كان مفكرا وفيلسوفا ومجادلا للفلاسفة ومتنوع المعارف ومثقف الجوانب، حيث اجتمعت فيها تلك المشارب، وكل ذلك الفهم. أما اليوم فقد تجد بعض المحافظين ينفصل عن طرحه الثقافي بسبب أنه محافظ أو تجد بعض المثقفين يبتعد عن سياق دينه بسبب أنه مثقف، وكلنا يلاحظ شيئا في مجتمعنا حين يذكر المحافظ فلن يتقبل منحه صفة المثقف، وتجد صورة المثقف في مجتمعنا تجدها منمطة أي في قالب وصورة نمطية أنه بعيد عن سياق الدين في ثقافته فيتم تصنيفه بعيدا. ولا أعلم حقيقة لمَ يجد بعض المثقفين بالذات الذين لديهم المعرفة والبحث والادراك يجدون حرجا في وضع القالب الثقافي وأطروحاتهم الثقافية المختلفة في محددات دينية وفي سياق محافظ يمزج العقيدة بالعلم وبالعمل وبالفكر وبالطرح وبالإنتاج الثقافي المتعدد والمتنوع. كما لا أعلم لمَ لا يبرز في المشهد الأدبي والثقافي دمج جميل يجمع بين صفاء المحافظة، وإبهار الثقافة، ولمَ يتم إقصاء الشخص المحافظ عن ساحة الثقافة حين يحمل أطروحات قد تضيف لتلك الساحة رؤى مختلفة ونفحات جديدة، أو يتم احتواء فكره من خلال وعاء ثقافي مناسب يسهم في توسيع المدارك الثقافية ومدارسها. ختام القول: في وجهة نظري أن أي مشهد ثقافي أو سياق ثقافي لا يزيدنا اقترابا من الله وخشية وفهما للدين وعطاء له فقيمته متحفظ عليها، وأي نشاط ثقافي لا يعيننا على طاعة وحق فهو نشاط يحتاج إلى مراجعة وتعديل جميل، ولعلنا نجد بيننا من يبتكر نقاط التلاقي بين الثقافة الفاخرة وبين المفروض الدين الجليل.