ضجيج كبير يحيط بالمجتمع الذي أصبح في شد وجذب حول الكثير من القضايا التي أخذ أفرادها يتنازعها بالقبول والفرض ، فيما راح البعض يجرب أن ينفض الغبار عن بعض القضايا التي مكثت طويلا في " براد " الزمن عله أن يفرض طبخها على فرن الأحداث تلك ، إن رائحة الضجيج ، والنقاشات الطويلة ، والأحاديث الجانبية ، والتمتمة المغلفة بهمس الرأي والمخالفة أو القبول ، لم تستثر كثيرا حرائق المثقف الذي بقي في عالمه ، يرقب المجتمع بنصف عين فيما أغمض الأخرى على همه الكبير ، وبقلب كامل ، يجرب أن يعدوا في حدوده الشاسعة التي لديها يعيش ويموت ، يفكر كثيرا حينما يقفز فوق الحواجز العالية ، لكنه يذوق طعم صهيله حينما يتألم مجتمعه أو يضج أو يفرح.. متهم هو المثقف دائما بأنه لا يمد يده إلى المجتمع إلا من فوق التل حينما يخشى أن يسقط ، متهم بالوحدة ، والإيمان المطلق بالعزلة ، متهم بالتعري أمام الضوء الخافت الذي يتسرب من تحت عتبة الحياة ، متهم بكثرة الريش ونكش فصوله المتقلبة، ودحرجة جمجمته نحو العمق ، متهم بالعشق الذي يحمل وجها آخر له طعم الليل ، وله سطوة شجر الليمون ، واختفاء الشمس في وضح النهار.. متهم ... لكنه لا يجرب كثيرا أن يبرر لانطوائه واعتكافه في معبد الروح ، فهو لايؤمن بنصب المحاكم والمشانق لتوقه وهبله واهتماماته لأنه يرى ما لا يستطيع المجتمع أن يراه تحت قدميه ، يعيش هذا الكائن الطائر " المثقف " في سماء رحبة من الهبل والتوق والرقص مع الغيم والرموز عابثا بكل تفاصيل الحياة ومسارات المجتمع ، في حين يبقى المجتمع يمقته لأنه لا يحسن التحدث عن كل ما يهمه بلغته البسيطة لغة الأرض ثم يقابل المثقف ذلك بابتسامة باردة ، متأمله ، وخافته !!.... فما سر العلاقة الشائكة والملتبسة بين المثقف والمجتمع ؟ في الوقت الذي لابد أن يتقاطع الهم الثقافي مع المنظومة الاجتماعية بكامل تجلياتها ، إلا أن المثقف غائب عن الفعل الاجتماعي وكأنه في ملوك خاص ، وفي مقابل ذلك نجد ممانعة لدى المجتمع من أطروحات المثقف وهمومه مما يعيق التواصل الجدلي الذي يسهم بالرقي بالإنسان ودفعه إلى آفاق أرحب وأجمل في منظومة الحياة .. لماذا تبدو العلاقة ملتبسة بين المثقف والمجتمع ؟ وأين تكمن الإشكالية في المثقف أو المجتمع ؟ وكيف نردم الهوة بين الجانبين ؟ وكيف لنا أن نفعل الحوار بينهما ثم كيف نستثمر ذلك لصالح الوطن والأرض والإنسان والحياة ؟ خطاب المثقف نخبوي يرى الدكتور تركي الحمد- المفكر والروائي - بأن الإشكالية مشتركة بين كل من المثقف والمجتمع فالمثقف بشكل عام إنما هو يمثل " النخبة " من فئة المجتمع ، وربما ذلك ما يجعل أحاديث المثقفين فيما بينهم نخبوية وكأنهم لا يتحدثون إلى تركي الحمد: المجتمع يخشى من غسل الدماغ وتبديل الأفكار الإنسان البسيط ، ولذلك يتصف الحوار هنا بالنخبوي موضحا بأننا نلحظ ذلك من خلال واقع المثقفين فهذا المثقف يرد على ذاك المثقف وذاك المثقف يطرح أطروحات معينة ، والمتلقي هنا يكون المثقف الآخر وليس الجمهور لأن خطاب المثقف خطاب نخبوي وبالتالي لا يصل إلى المجتمع ، مشيرا إلى ضرورة أن يبسط المثقف من خطابه حتى يتمكن المجتمع من فهمه والاقتراب من أطروحاته تلك ، من ناحية أخرى يجد " الحمد " بأن المجتمع يخشى دائما من عمليات غسل الدماغ ووضع أفكار معينة وبالتالي لايستطيع أن يفهم كثيرا خطاب المثقف أو يقترب منه ، فلا يستطيع أن يفهم خطاب المثقف من ناحية كما أنه لايرى بأن هذا الخطاب يمس حاجاته المباشرة ، فالسؤال الأهم يكمن في التالي : ماذا يريد الإنسان البسيط في المجتمع ؟ هو يرغب – بالتأكيد – بمن يتحدث عن متطلباته البسيطة ، إلا أن المثقف في مقابل ذلك يطرح أطروحات مختلفة وبعيدة ، موضحا بأن تلك الأطروحات قد لاتكون بعيدة عن الواقع إلا أنها لاتكسب الواقع بصورة بسيطة للمجتمع ، مؤكدا بأن المشكلة المتسبب بها " المثقف والمجتمع " على حد سواء ، فالمثقف ونخبويته ، والمجتمع وبساطته وما يعيشه من ثقافة " تعشش " في دماغه ، أما عن ردم تلك الهوة التي بين المثقف والمجتمع فيرى " الحمد " بأنها لن تتحقق إلا من خلال ارتقاء المجتمع بحيث يرتفع مستوى التعليم والوعي والإدراك في المجتمع ، كما أن المثقف الذي يرغب في التغيير والإصلاح والتقدم يجب عليه أن يبسط خطابه ويضع أمامه المتلقي لهذا الخطاب ، فإذا رغب بالاحتفاظ بنخبويته وبأن يتحدث مع مثقف آخر فالمشكلة ستبقى ، أما إذا حاول أن يبسط خطاباته ويطرح أطروحات بسيطة بما يفكر به ، ويحاول أن يبسط ذلك الخطاب للمجتمع فإنه لابد أن يصل خطابه ، مشددا على أن المسؤولية هنا مشتركة في ارتقاء المجتمع بوعيه ، ومن خروج المثقف من نخبويته وطرحه لأطروحات تصل لفهم المتلقي. فالح العجمي يعتقد البعض بأن الحوار عصا موسى السحرية ويرى الأستاذ والدكتور فالح بن شبيب العجمي – الناقد والأستاذ بجامعة الملك سعود - بأن غياب المثقف عن الفعل الاجتماعي ليس طوعياً؛ بمعنى أنه لا يريد الإسهام في حل مشكلات المجتمع، أو تقديم العون إلى من يريد منه التعاطي مع بعض القضايا الاجتماعية الفكرية والثقافية. بل إذا أردنا أن ننقل الواقع فالمثقف مثل شماعة الأسئلة الصعبة للفاشلين في الاختبارات، يؤتى بها عندما لا يجد القائمون على حل المشكلات وأصحاب القرار أي مخرج، ويضعونه في الواجهة في الوقت فالح العجمي: المثقف مثل شماعة الأسئلة الصعبة للفاشلين في الاختبارات وطحالب تريد الاستفادة من النتائج الطيبة الضائع، ويطلبون منه اجتراح المعجزات. مشيرا إلى العلاقة بين المثقف والمجتمع؛ والتي يرى بأنها فعلا ملتبسة، لكن الإشكالية لا تكمن في المثقف ولا في المجتمع، بل في تلك الطحالب التي تريد الاستفادة من النتائج الطيبة، دون أن تنسبها إلى أصحابها؛ حتى وإن كان من أتى بها هو المثقف. كما تريد دفع غائلة السوء الذي يتسببون فيه، ليلصقونه بالمثقف أو الظروف لم تساعد على الإنجاز، حتى وإن كانوا هم من صنعوا تلك الظروف. مؤكدا بأنه لن يوارب؛ ويقول بأن هذه الفئة هي التي تتصدى لتجهيز موائد القرار، وتوزع بمعرفتها (الواسعة!) وعلاقاتها الثابتة مع أطراف محددة الأدوار بالكامل، موضحا بأنه لا توجد هوة أصلاً بين المثقف والمجتمع ، لأن المثقف من جهة، والمجتمع من جهة أخرى، في طريقين مختلفين. لذا لا توجد بينهما هوة، بل هي مسارات مختلفة، لا يمكننا في هذه الحال التوفيق بينها. والسبب في ذلك – فيما يظن – تلك الطحالب التي لا تحسن الفعل، ولا تترك للقادرين فعلا محمودا أما عن الكيفية التي من الممكن من خلالها تفعيل الحوار بين الجانبين فيوضح بأن الحوار أصبح مثل عصا موسى؛ نلجأ إلى طرحه كلما ظننا بأننا بحاجة إلى حلول سحرية. أي حوار؟ المثقف من المجتمع، ولا يحتاج أن يجري حواراً مع شرائح يفترض أنه يتفاعل معها أصلاً بتفكيره، وإلا فهو غير مثقف. لكن الحاجة ستكون ماسة لتوعية المجتمع بذلك التغييب لعناصر مفيدة جداً لحراك المجتمع الثقافي، وإدراك مشكلاته الاجتماعية والتنموية. فإذا تحققت هذه التوعية، فإن رصيدها سيتوجه مباشرة إلى صالح الوطن والبيئة والإنسان الذي يعيش فيها. علي الرباعي تسامح المجتمع مع أخطاء نخبوية لتيارات عدة ويؤكد الدكتور علي بن محمد الرباعي – كاتب وإعلامي - بأن التباس العلاقة مرده إلى عدة إشكالات : منها إغفال المثقف لهموم مجتمعه واشتغاله غالبا على همومه الخاصة ، عدا أسماء محدودة يعنيها الشأن العام وتضعه في قائمة أولوياتها ، ثم أن صورة المثقف مشوهة من جانب تيارات أو سلط تسهم بشكل كبير في توسيع الهوة بين المثقف وبين المجتمع وتورط المثقف في تبني أطروحات استفزازية ليضج بها ومنها المجتمع ، و القوى المؤثرة في المجتمع تلعب لعبة مزدوجة تقوم على علي الرباعي: هناك من يسعى لتوريط المثقف لتبني أطروحات استفزازية ليضج منها المجتمع تحسين صورتها وتقبيح ما سواه ، موضحا بأنه لن تتضاءل الهوة أو تضيق إلا عند قيام مؤسسات مجتمع مدني وتتحمل مسئولياتها في خدمة المجتمع ولا يعذر المثقف في تحمل الجزء الأكبر من المسئولية وتحاشي التورط في إشكالات القضايا الاستهلاكية ، ومن جانبه ينبغي للمجتمع أن يتخلى عن التوتر الناتج عن الخطابات المتشنجة ويتعاطى مع المثقف بموضوعية ، فالمثقف بشر شأنه شأن غيره من أفراد المجتمع له مزاياه وعيوبه ويسهل رصد ملاحظاته لأن المثقف الحقيقي لا يقبل بازدواج الشخصية ، ولا يتعاطى مع مجتمعه بلسانين ووجهين ولذا يتسخط منه من يضعونه في خانة مثالية ليقع تحت مجهرية خاصة ترصد تصرفاته وتضخم سلبياته ، بينما يتسامح المجتمع مع أخطاء وخطايا أفراد نخبوية تمثل تيارات وتوجهات فكرية عدة ، مؤكدا على أن الزمن وحده كفيل بإظهار الحقائق ونتمنى ألا يتأخر في ذلك لأن الكشف بعد فوات الأوان لا قيمة له والذي يأتي متأخرا من الأولى ألا يأتي. يهتم المثقف بتعميق القيمة في حين يختصرها المجتمع. شتيوي الغيث ويختلف معهم " شتيوي الغيث " الكاتب – والذي يرى بأن السؤال الذي تبدو ملحّة الإجابة عليه قبل الإجابة على هذه المحاور هي في دور المثقف وكيف يكمن هذا الدور في السياق العام.. فيرى أن المثقف لم يعد ذلك النخبوي أو القابع في سياقات غير السياقات الطبيعية للمجتمع، مشددا هنا بالسياقات الطبيعية إذ يمكن أن يخرج السياق عن الوضع الطبيعي ويظن الجميع أن هذا هو سياق المجتمع كأن تتم قولبة المجتمع بقوالب معينة ثم يفترض قبول المجتمع عليها وصياغته بتلك الطريقة ، شتيوي الغيث: المثقف خارج اللعبة الاجتماعية وعليه أن يحول أفكاره إلى مشاريع حياتية موضحا بأن المثقف يمكن أن يكون نخبويا في أضيق الحدود كأن يشتغل على مجالات نظرية جامدة لكن هذا تأثيره على المجتمع ضعيف وغير مجدي ، كاشتغالات بعض الأكاديميين في مسائل دقيقة مثلا، كالتعامل مع بعض التحليلات المنطقية والعقلية الصرفة، وهذه على أهميتها تبقى في إطار الاشتغال العلمي الصرف الذي قد لايهم المجتمع كثيرا. موضحا بأن المثقف الآن هو مثقف فاعل، وإذا لم يكن كذلك فهو خارج اللعبة الاجتماعية التي تفرض عليه في حال أراد أن يكون مؤثرا أن ينخرط في الحراك الاجتماعي ويحاول مساءلته أو تحليله، وهنا جزء من إجابة على سؤالك الأول وهو الالتباس بين المثقف والمجتمع.. مضيفا هذا الالتباس طبيعي كون المثقف يحمل رؤية نقدية للواقع . طبيعة المجتمعات أن تكون ساكنة في كثير من أمورها غير المادية، وهمها منصب على الآني من الأفكار، والمثقف يحاول أن يأتي بمنظومة كاملة من الفكرة كأن يشتغل المثقف على مسألة الحق في العمل كقيمة إنسانية في حين يهم المجتمع أن يتم اختصار هذه القيمة بممارسة العمل مباشرة من غير تنظيرات طويلة. دائما هناك مؤثر ومتأثر أو فعل وفاعل ومتفاعل.. المجتمع يقع في خانة المتفاعل وهنا تكمن الإشكالية بين المثقف والمجتمع وهي إشكالية تبدو لها ترسبات طويلة من قضية النخبة والعامة على الرغم من أن الاشتغلات الجديدة في أكثر الثقافات تصب في خانة الفاعلية الإنسانية ، موضحا بأن ردم الهوة لن تكون مالم يتنازل المثقف قليلا عن نخبويته الفكرية بحيث تتمثل أفكاره إلى مشاريع حياتية أي تتحول تلك الأفكار من كونها تنظيرات إلى كونها عملا يوميا محفزا سواء عن طريق العمل المؤسساتي أو عن طريق التواصل الاجتماعي والاقتراب أكثر من هموم الناس وفي ذلك ربما ضرر للمثقف بان ينخرط بكليته في الشأن الاجتماعي البسيط.. وكمن الآن دور المثقف في مثل هذه الأيام إلى محاولات إثارة الوعي دون التعالي أو التسفيه من ثقافة الشعب. والاستثمار الوطني والإنساني راجع إلى مدى قابلية الأفكار إلى التحويل من منطقة فكرية مجردة إلى منطقة فكرية عملية مؤسساتية تتطلب القبول من طرف المجتمع وتتطلب التنازل النسبي من قبل المثقف بحيث تتحول إلى مشروع عملي يهم المجتمع ولا يخرج عن هموم المجتمع الكلية.