ترسم التقارير الأخيرة الصادرة عن البنك المركزي الأوروبي صورة لأوروبيتين تنقسمان على عملة واحدة. المجموعة الأولى مكونة من بلدان ذات مديونية مرتفعة، أهمها إيطالياوفرنسا. أما المجموعة الثانية، بقيادة ألمانيا، فهي أوروبا ذات البلدان المحافظة في مجال المالية العامة. المجموعة الأولى تدعم التسهيل الكمي الإضافي للحفاظ على الميزانيات العامة من التضخم. أما الأخيرة فقد قبلت بالإتلاف الأخير الذي تسببت به عملية شراء السندات تحت سلطة البنك المركزي الاوروبي وقد ينفذ صبرها. المجموعتان بحاجة إلى إيجاد حل وسط. اقتراحي هو استخدام برنامج التسهيل الكمي بشكل مختلف. بدلا من سياسة تنذر بخطر تضخيم الفقاعات المالية وتقدم الدعم للسلوك السيئ في المالية العامة، يمكن أن تعمل الأموال التي تنتج عن برنامج التسهيل الكمي على تمويل مستقبل أوروبا مباشرة فيما لو تم توجيهها نحو صناديق الاستثمار في البنية التحتية على نطاق أوروبا بالكامل. لدى أوروبا بالأصل أداة لهذا (رغم نقص التمويل): هذه الأداة هي أن الربط الصريح لعملية خلق المال مع الاستثمار من شأنه أن يوفر الموارد المناسبة لتعزيز النمو وإزالة الإغراء الذي يجعل الحكومات تنفق على أمور أقل إنتاجية. انخفض الإنفاق على البنية التحتية في منطقة اليورو في المتوسط إلى 2.7 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة مع 3.4 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة للولايات المتحدة و3.6 بالمائة لليابان. أما البلدان الأكبر - فرنساوإيطالياوألمانيا - فقد خفضت الاستثمارات بنسب تتراوح بين 15 إلى 20 بالمائة خلال العقدين الماضيين. كما ذكرت المفوضية الأوروبية في بيانها لشهر حزيران (يوليو) بمناسبة إنشاء صندوقها للبنية التحتية: «الاستثمار الضعيف في منطقة اليورو له أثر كبير على أسهم رأس المال، والتي بدورها تؤدي إلى تراجع مستويات النمو المحتمل والإنتاجية والعمالة في أوروبا، وكذلك خلق فرص العمل». ما لم تؤكد عليه المفوضية كان كيفية اختيار الحكومات الأكثر مديونية لطريقة إنفاق أموالها خلال تلك الفترة: وهو الإنفاق الاجتماعي. وفقا لقاعدة بيانات المفوضية الأوروبية، زادت إيطاليا من نفقاتها الاجتماعية بأكثر من 6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي وفرنسا بما يقارب 4 بالمائة. أما إيطاليا فقد أنفقت أساسا جميع وفوراتها من تكاليف سعر الفائدة - وحكومة فرنسا أضعاف وفوراتها - على البرامج الاجتماعية، أهمها المعاشات التقاعدية وقطاع الصحة. في عام 2012، بلغ الإنفاق على المعاشات التقاعدية 15.8 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في إيطاليا و 13.8 بالمائة في فرنسا، مقارنة مع متوسط 7.9 بالمائة فيما بين أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. خلال الفترة نفسها، خفضت ألمانيا من نفقاتها الاجتماعية بنسبة 0.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، والتي جاءت على رأس مدخراتها لأسعار الفائدة. فكرة أن هذا ينبغي أن يحدث هو أمر بالغ الأهمية لفهم الصراع الحالي داخل البنك المركزي الأوروبي. عند ولادة اليورو، اعتُبِر أنه مبشر لحقبة جديدة يقبل فيها الأعضاء الأكثر إسرافا في أوروبا عقيدة ألمانيا في المالية العامة، المنصوص عليها في معايير معاهدة ماستريخت. إن قيود هذه المعاهدة قد تشجع السلوك الحصيف ماليا، في حين أن أسعار الفائدة المنخفضة من شأنها أن تسمح بتخفيض الديون القومية وتجديد الاستثمار في البنية التحتية. الانخفاض الموعود اللاحق والتقارب في تكاليف الإقراض الحكومي في سوق السندات حقق وفورات مادية للميزانيات عبر منطقة اليورو، بما في ذلك ميزانية ألمانيا. وفقا للمفوضية، تنخفض تكاليف خدمة الدين بالنسبة لألمانيا إلى 1.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في الوقت الحاضر، من نسبة 3.4 بالمائة قبل 20 عاما، وهي وفورات قريبة من 2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. انخفضت مدفوعات الفائدة للحكومة الفرنسية بنسبة 1.3 نقطة مئوية إلى 2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما ينخفض العبء في إيطاليا إلى 4.2 بالمائة من 11.1 بالمائة. باختصار، استفادت الدول الأوروبية من التراجع المطول في أسعار الفائدة المماثل في حجمه لما قدمه برنامج التسهيل الكمي. لكن في الوقت الذي كانت تحقق فيه بعض البلدان وفورات كبيرة من خلال تكاليف الإقتراض المنخفضة، كانت في الوقت نفسه تحد من الاستثمار، لكنها كانت تزيد من الإنفاق الاجتماعي، من أجل الفوز بأصوات الناخبين. بفشلها في الإدخار والاستثمار في الأوقات الجيدة، اقترضت حكومات منطقة اليورو بشكل كبير عندما ضربتها الأزمة المالية. تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي الآن في إيطاليا 130 بالمائة، ونسبة البرتغال مشابهة لها، والنسبة في فرنسا هي أكثر من 95 بالمائة. مع ارتفاع الدين والعجز إلى مستويات بالغة الخطورة بالأصل، لا مجال أمام تلك البلدان للمناورة على جبهة المالية العامة. إذا كان ذلك سيخبرنا أي شيء، فإنه سيكون بأن البلدان المثقلة بالديون تلهث من أجل الاستفادة من فوائد برنامج التسهيل الكمي، لكنها ستسيء استخدامه، وفي الوقت نفسه من الممكن أن يؤدي هذا إلى إنشاء فقاعات في المالية العامة لدى البلدان المحافظة. الاستثمار في البنية التحتية والبحوث في أوروبا يعتبر استخداما أفضل بكثير لعائدات هذا العصر الشبيه بالإقطاعي. خلصت دراسة أجراها صندوق النقد الدولي مؤخرا إلى أنه في الاقتصادات المتقدمة، تعمل زيادة الاستثمار في البنية التحتية بنسبة 1 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي على تعزيز الناتج قصير الأجل بنسبة تتراوح بين 0.4 إلى 1.5 بالمائة خلال السنوات الأربع التالية. في فترة من شح الطلب، يكون هذا أمرا مهما. علاوة على ذلك، فهو يعني أن الناتج الاقتصادي يرتفع دون حدوث زيادة في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. في الوقت الذي يبدو فيه وكأن المفوضية تقر هذا وتعترف به، لا تزال الموارد التي تلتزم بها أوروبا لمجال البنية التحتية والبحوث هي غير كافية نهائيا. كان كل من بنك الاستثمار الأوروبي والمفوضية الأوروبية قادرين فقط على جمع مبلغ ضئيل مقداره 16 مليار يورو (17 مليار دولار) لتأسيس الصندوق الاوروبي للاستثمارات الاستراتيجية، وسوف يستغرق الأمر أكثر بكثير لتحقيق هدف المفوضية المتمثل في «كسر الحلقة المفرغة التي تتألف من نقص الثقة وضعف الاستثمار، والاستفادة من السيولة التي تمتلكها المؤسسات المالية والشركات والأفراد في الوقت الذي تكون فيه الموارد العامة شحيحة». سواء أتم إنفاقها على الطرق أو السكك الحديدية عالية السرعة أو حتى ضمان أن جميع مواطني الإتحاد الأوروبي لديهم اتصال سريع بالانترنت، هنالك الكثير من المشاريع المحتملة للتنافس على تلك الموارد. إذا كان تحليل صندوق النقد الدولي صحيحا، فإن هذه المشاريع سوف تخلق، في المتوسط، ناتجا أكبر من تكلفتها. منطقة اليورو على مفترق طرق. ولأنها مصممة هيكليا بشكل سيئ، ووهنت بسبب التهاون على نطاق واسع من معايير الدخول، فقد دعمت السلوك السيئ. وتصبح الآن مفرطة في اعتمادها على السياسات النقدية النشطة، مع بقاء البنك المركزي الأوروبي المحرك الوحيد للسياسات الاقتصادية، رغم أن هذا ليس من العدل بالنسبة للبنك. بدأنا الآن فقط في مناقشة المخاطر. أقل ما يمكن عمله هو إنفاق أموال التسهيل الكمي بحكمة.