حادثة مسجد المشهد في مدينة نجران تضعنا أمام صورة بانورامية نهائية للمتطرفين واختراقهم لكل المحرمات، فهي تثبت بشكل قاطع أنهم لا يترددون عن استباحة بيوت الله، وصولا إلى تحقيق غاياتهم، ولا يمكن تصوّر استخدام باطل معقد كما في هذه الحوادث، وصولا إلى حق متوهم يسلك طريقا دمويا قاتلا يستهدف المصلين الذين يتقربون إلى الله بأداء صلواتهم وعباداتهم في المساجد، التي لا يمكن التجرؤ عليها بهذه الوحشية، حتى أن أعداء الدين أكثر احتراما للمقدسات ولا يقتربون منها وإن كانوا في حالة حرب. ذلك الذي فجّر نفسه في مسجد المشهد، نموذج للغلو في التطرف، أي ارتفاع مستوى الخلل العقدي في العقول والأنفس، وذلك تطور خطير، خاصة وأننا نستوعب أن الرجل خضع لبرامج المناصحة، ولا يزال على باطله الذي انتهى به سافكا لدماء الأبرياء وهم يصلّون في بيت الله. وهنا بالطبع نصل الى نتيجة أخرى تبعا لتطور الفكر الإرهابي والمغالاة في التطرف، وهي أن المعالجات ينبغي أن تتطور، إذ لا يمكن الاكتفاء بالمعالجة الأمنية وحدها؛ لأن هناك فكرا نائما لا يزال يتحرك في عقول سطحية وفارغة تم شحنها بكثير من الفوضى الدينية التي تجعلها لا تكترث لإسالة الدماء في المساجد، وذلك أمر لا يفعله إلا مجنون يتحرك بضغط نفسي وعقلي رهيب يفقده التوازن وتحديد الخيارات المنطقية، وإذا وضعنا الدين وحرماته جانبا وبقينا على المبدأ الإنساني، فلا يمكن لشخص سوي أن يقتل الأبرياء بمن فيهم كبار السن والأطفال الذين يبدؤون الاعتياد على طريق المسجد، ثم يصدون عنه عندما يتهددهم هؤلاء بالموت. الإنسانية بالتأكيد ترفض الغدر والغيلة والتربص للناس على هذا النحو، وعليه فإننا أمام تجرّد إنساني أولا، يتبعه زيغ عقدي وضلال ديني وعبث فكري، وكل ذلك يصنع الفكرة المحورية التي جعلت ذلك المتطرف يفجر مسجد المشهد، بعد أن تعرّض لتشتت فكري ووجد من يلمّه من الخطباء (المتمشيخين) المتطرفين وجعله تحت إمرته لينفذ أجندته التي تصل به الى إخراج كل شخص من جزيرة العرب، ولنا أن نقف عند هذه النقطة التي كانت تقتصر على اليهود والآن أصبحت تشمل كل من يخالف هؤلاء المتطرفين وينبذهم ويرفض فكرهم، فإذا خرج الجميع من جزيرة العرب فلمن تبقى؟!! خروج أولئك المتطرفين من صميم قواعدنا الاجتماعية يعني التالي: أن كثيرين منا يغفلون وجودهم أو لا يكترثون للمتغيرات النفسية والعقلية لمن حولهم، وغياب الحوار الذي يكشف ويستكشف وجود هؤلاء ونمو الفكرة المتطرفة والمتشددة في عقولهم، عدم تفاعلنا مع المتغيرات السلوكية لدى الذين يستهدفون بالتطرف، فراغ الخطاب الديني من توجيهات مضادة تمتص التشدد، عدم بذل أي جهد للسيطرة على قناعات المتطرفين الذين يتحاورون مع أنفسهم في ظل انكفائهم عمن حولهم لأن هؤلاء بدورهم غير مبالين بتغيراتهم وتطوراتهم السلوكية والعقلية، ولذلك كله فإن المجتمع نفسه يتحمّل جزءا كبيرا من انتشار الخلايا النائمة، فعدم الشعور بها يعني تواضع الوعي وغياب الحس الأمني في وقت ينبغي أن يرتفع فيه؛ لأننا في مرحلة تتطلب اليقظة والانتباه، ولا يمكن ترك الأجهزة الأمنية وحدها في معركة مصيرية كهذه.