دعاني أحد أصدقائي إلى مجلس علم سيحضره رجال أكفاء للحوار حول قضية علمية اجتماعية ولم أتأخر فذهبت معه وقد ملأني حسن الظن من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي في هذه الكوكبة المتلالئة من رجال العلم والمعرفة فاستَعَدَّتَ جميعُ حواسي لاستقبال ذلك العلم الفائض من هؤلاء الرجال.فما أن دخلت مجلسهم حتى سمعت أحدهم يعلي صوته من هنا وآخر يجيبه بصوت أجش وأعلى واستنفر آخر جميع طاقته ليُلجِم الجميع ويفرض رأيه ويبرز علمه ومكانته المعرفية.. وبدأت الأصوات تتعالى وكأنها أَلْسِنَة لهب.. فعجبت من هذه الطبقة المثقفة والتي تفتخر بشهاداتها العالية وعلو كعبها الوظيفي في البلاد.عجبت كيف لم ينعكس ذلك العلم وتلك المعرفة على سلوك هؤلاء بشيء من اللطف والمرونة.!! كُلٌّ يريد أن تكون له الكلمة الفصل وكُلٌّ يريد الانتصار لنفسه / لشخصه لا لحجته ورأيه العلمي.!! فتحاملت على نفسي كثيراً وأجبرت نفسي لأبقى إلى آخر وقت هذا النقاش / الصراع لا الحوار وبعد أن انتهت المعركة التي أسفرت عن [لا غالب ولا مغلوب] ولم أفهم من ذلك الجدل شيئاً أنفض المجلس وأخذ صديقي بيدي وخرجنا نبحث عن حبوب مُسكنة للصداع الذي تملكنا لنعرف كيف ننام تلك الليلة.. وعندما هدأت العاصفة التي تعرضنا لها بدأتُ أفكر وأحاول أن أزن الأمور بمعرفتي. وأحاول الإجابة عن هذا السؤال: هل هذا الذي خرجنا منه حوار أو جدل وما هو الفرق بين الحوار والجدل؟! رجعت إلى بعض الكتب النفسية / التربوية / الاجتماعية لأجد تعريفاً علمياً للجدل والحوار!! ومن خلال البحث وقعت على أساس المشكلة في الحوار الفوضوي هذا وهو ببساطة أننا نفتقر إلى معنى الاستماع الذي هو أساس الحوار ومنه ينطلق الحوار فالاستماع الجيد يعطي المحاور فرصة ثمينة للتعلم ولترتيب أوراق الحوار يقول مؤلف كتاب (فن الحوار) : [البعض يقول بأننا خُلقنا بأذنين وفم واحد، لكي نسمع ضعف ما نتحدث وهذا قد يكون منطقاً مقبولاً، لأنك إذا لم تسمع فلن تستطيع التعلم، ولن تستطيع الحوار والنقاش دون أن تسمع الآخر وتفهم قصده جيداً وتشرح أيضاً تصورك] عزيزي القارئ.. جاء في كتب الأدب هذان البيتان: اِسمع مخاطبة الجليس ولا تكن عجلاً بنطقك قبل ما تتفهم لم تُعْطَ مع أذنيك نطقاً واحداً إلا لتسمع ضعف ما تتكلم... الحوار فن ويجب أن نهضم هذا الفن حتى نستطيع أن نتحاور بشكل حضاري. مشكلتنا تتلخص في أن الحوار فيه منتصر ومهزوم. وهذا غير صحيح.. الحوار فيه منتصر واحد وهو الموضوع.. موضوع الحوار لا الأشخاص المتحاورون.عزيزي القارئ.. الحوار اسلوب حضاري لإيضاح الحقائق بشكل جلي وواضح، قال بعض الباحثين: إن الحوار في اللغة هو الرجوع والمجاوبة. وفي الاصطلاح مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين. وعرفه بعضهم بأنه (نوع من الحديث بين شخصين أو فريقين، يتم فيه تداول الكلام بينهما بطريقة متكافئة فلا يستأثر أحدهما دون الآخر، ويغلب الهدوء والبعد عن الخصومة والتعصب، وهو ضرب من الأدب الرفيع، وأسلوب من أساليبه.والجدير ذكره هنا أن الحوار له عدة ظلال وشبه مترادفات مثل النقاش والجدل والمناظرة والمحاجة وكثير الناس يخلط بين هذه المسميات. وأما لفظ المحاجة فتطلق في اللغة على التخاصم والجدال ويقال: رجل محجاج أي جدل، والتحاج: التخاصم، والحجج: القصد والكف والقدوم والغلبة بالحجة وكثرة الاختلاف والتردد بخلاف الحجة التي هي: البرهان، تقول حاجه فحجه أي غلبه بالحجة. وفي المثل (لج فحج). والصحيح أن الحجة هي: ما دفع به الخصم وبمعنى آخر هي: (الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة، وإنما سميت حجة لأنها تحج أي تقصد).إننا في هذا العصر أخذنا بماديات المدنية الحديثة ولم نأخذ بقيمها ومعنوياتها فليتنا نعبر هذا الجسر الشائك الذي يمتد بيننا وبين من سبقونا في التكنولوجيا.